الفنانون والنجوم يبيعون النقد بقشرَة بصل «التواصل الاجتماعي»!

ذهَبَ جيل من النقاد (1990-2020) وجاء جيل، فلا الجيل القديم وضع قواعدَ وأصولاً وركائز صلبة تستحق الاتّباع، ولا الجيل الجديد أدرك مكاناً بعد في الحرفة الجميلة التي هي النقد الثقافي، وظروفُ الجُدُد المهنية الصحافية لا تساعدهم على التفرُّغ والانكباب على تكوين شخصية مؤثّرة. وإذا كان الجيل السابق اتّكأ على صحافة مزدهرة، فالجيل الجديد أمام صحافة تضمحلّ، يتّكئ على ما يحصّله بجهود ذاتية، والأملٌ قائمٌ في أن ينجح بعضه في تأكيد حضوره. ذلك أن الأسئلة تتجدّد مع تجدّد الأيام والحِقَب حول العلاقة بين الناقد والفنان، وأي تعاون جدّي ينبغي أن يسُودها، وما هي المساحة المطلوب إيجادها بين الطرفين لتبقى النصوص النقدية سليمة من المُحاباة، فضلاً عن التطبيل والتزمير؟وهل هناك شاعر أو روائي أو فنان تشكيلي أو موسيقي أو مسرحي أو مغنّ… يمكن أن يتقبل النقد لعملِه، من زوايا سلبية، من دون أن يأخذه الغضب أو حتى الحقد؟ من أسف أن الحقد أصبح طاغياً في النفوس كردة فعلٍ على أيّ فكرة نقدية؟

من زمان وزمان كان الأمر على هذا النحو، ولا يزال: الفنان أو الكاتب يعتبر نتاجَه كاملاً وصافياً وإبداعياً ولا يأتيه الباطل من يسار أو يمين، والناقد يتبوّأ مقعده عالياً، فإذا كَتَبَ نقده اعتبرَه منزّهاً عن كل عيب وأقرب إلى الآيات. والنتيجة: طواحين هواء لا يسمع فيها أحدٌ أحداً، وليس مستعدّاً أحَدٌ لينزل عن الشجرة التي يصعد إليها في التعامل مع كل ما يقال عنه، وهنا الفنان والناقد في الهوى… سَوى!

في فنون الرواية والشعر والأدب والخواطر وغيرها، تصطدمُ بأشخاص يجمعون لطباعة كتَابهم أحياناً من مدخولهم، ويصدرونه عن «دار» نشر للتوزيع غالباً لزوم التسويق، ويُهدُونه لبعض النقاد والإعلاميين، وينتظرون «تبادُل» الهدية بمقال، فإذا لم يُكتَب المقال، تهبّ الاتهامات بالإهمال. وأحياناً تهبّ بادّعاءِ أن جمال الكتَاب أزعج الناقد لأسباب وخلفيّات شخصية. يضاف إلى القضية سكين الطائفية في بلد كلبنان تحضُر فيه الطائفية في الطعام والشراب والهواء.

الوقائع نفسُها والنتيجة نفسُها. أما الكتّاب المعروفون، فتأخذ «دور» النشر عملهم، وتمنحهم دولارات قليلة، وبقية السّردية معروفة!

غير أن المؤذي أكثر في المعضلة بين الفنان والناقد، أنّ الكاتب الجديد لا يختلف عن الكاتب الأقدم منه، المُخضرَم، في شيء، من حيث التعامل مع النقد. كاتب النص لا يقبل بأقل من مطوّلة مدائحية، فإذا شابتْها جملة اعتراضية، نسي صاحبُنا المقالة كلّها وعلِقَت «الجُملة» في حنجرته وبات لا يرى غيرها.

وهناك ميولٌ جارفة وغيرُ مقبولٍ تضخُّمها لدى الكاتب هي هوسُ سماع الإطراء، ولو أن الكاتب، في قرارته، يدرك أخطاءه وأحياناً معاصيه في ما كتب. وتلعب هنا الصداقة بين الناقد والفنان لُعبَتها السخيفة في التقريظ والمهادنة من جهة أو الهجوم الشرس في حال العداوة أو النفور. وكل هذه الحالات لا بدّ وقد مَرّ فيها الناقد والفنان في الحياة المهنية!

المبتدِئ في الكتابة مستعجل دائماً على المديح. وهو هنا ليس من يصدر كتاباً واحداً بل قد يبقى مبتدئاً مع الأثَر الفني الخامس مثلاً الذي يُصدِرُه، إذا لم يثبت قدرته على تجاوز نفسه والقفز بها بذكاء فني واضح إلى مصاف المعتَرف بهم. وهيهات مَن يعترف!

أخرجُ إلى المحترفين لأُسَلّم أنّ هؤلاء مصابون بمرَض اسمُه في علم النفس «نُشدان الاستحسان» الذي يبدأ من الكتابة الأولى أحياناً ويستمر مسيطراً إلى أواخر الأيام. صحيحٌ أن نُشدان الاستحسان حالة عامة لدى أغلب الكتّاب تتمحور حول كوكبةِ مجموعة آراء إيجابية تجاه أعمالهم الأدبية، لكنّ اشتداد الحالة قد يصل إلى حدود محاولة السطو على آراء النقاد، بالنفاق أو بالتهديد بالرزق. ويتّبع كثُر من الكتّاب تناقضاً مرَضياً هو امتداح الناقد على إيجابيته في مقال، والانقضاض عليه بنعوت الجهل على سلبيته في مقال آخر. لا بل يصبحُ المقال الإيجابي شهادة حُسن سلوك ووعي وإدراك «أبدية»، فإذا مَرّ مقال سلبي في وقت آخر، وُصف عندها الناقد بالمزاجية والهوائية وبعَار «تغيير رأيه»… ونحن نعلم أن كل عمل فني لهُ تقييمه، وحوافزه الموضوعية، وشروطه، وانطباعُنا عن كِتاب ليس مربوطاً عضوياً وجنينيّاً بالكتاب الذي سيَليه. فإذا اكتُشِف في الأول متانةً وحيوية إبداعية، فليس حُكماً أن يتتابع «الاكتشاف» في ما وراءه، وللكاتب والشاعر والفنان ظروفٌ وطبيعةٌ وطباعٌ وجودةٌ أو سوءٌ في المادة التي بين يديه، أو خلل في تقديمها.

فهل من الغلواء القول إن المثقفين والفنانين الداعين دائماً وأبداً، بمناسبة وبدون مناسبة، إلى الحوار، هم أبعد الناس عن الحوار، وإن لفظة الحوار التي يستخدمونها إنما تعني الاقتراب من «صَحّ» أفكارهم لا التّماس الإنساني بين فكرين أو خطين أو رأيين متناقضين، وإن الخلافات الشخصية بين هؤلاء، أكبر -أصغر من أن تُحَل من دون إلغاء الخصم؟

نَعَم هناك محبة تعترينا تجاه مقال يُظهر غنىً وجمالاً ومهنية في أثَرنا الأدبي الخاص، لكن أيضاً هناك مبالغات إيجابية (غير السلبية التي صارت عِدة الشغل) تجاهنا نشعر حيالها بشيء من التملّق والمُحاباة، والزائد أخو الناقص في هذه الحالات. وهنا قيمة الناقد الذي لا يمالئ «صعوداً» في التكريم ولا «هبوطاً» في التهديم، بل يبني مقالته بالمنطق. وأغلبُنا لا بد من أنه عرف في حياته مَن كبَّرَه لغاية في النفس أو صغّره لغاية أخرى.
وفي البراهين، مثلاً لا حصراً، أنه ساءت قبل سنوات، علاقة شاعر عربي كبير تحدّث عن بيروت، ببعض أصدقائه الخلّص في المدينة، الذين ردّوا عليه… فكانت النتيجة المدوّية والفاضحة أن علاقة الشاعر الكبير انقطعت بهم وباتوا يتحاشون بعضَهم، ويرسلون في مجالسهم رسائل ليس فيها من الودّ القديم أي شيء، فقد حلّ التنابذ مسيطراً.

فإذا كان هذا شأن الكبار «المضروبين» بحجر ثقيل في مكانتهم وصداقتهم، فماذا يبقى لصغار القوم ممّن هُم في القصر…من مبارح العصر؟

أوَليس من حق شاعر كبير عاش في لبنان أن يقول رأياً ببيروت ولو اختلفنا معه؟ بلى هذا حقّه.

ثمّ أوَليس من حقّ مخالفيه أن يعبّروا عن استيائهم من رأيه؟ بلى وهذا أيضاً حقّ. فلماذا كان ذلك الاشتباك طالما أنه رأي ورأي مختلِف سوى العنجهية والأنا القاسية التي تريد أن تمحو الآخَر؟

برهان إضافي: ناقد كبير كان في صفحته الثقافية يدعم ويشجّع ويُكبِر بعض كُتّاب الرواية، فعندما كتب هو روايات، اختفى دعمه وتشجيعه وإكباره لأولئك، وتواضَعت مراتبهم لديه، وبات يتحسّس من تناولهم بالإعجاب! هذا فضلاً عن «السياسات» أو الهندسات الثقافية في أغلب الصفحات الثقافية التي أغفلَت أنواعاً شعرية بعينِها، فامتنعَت مثلاً، بشكل شبه كلّي، عن نشر القصيدة الكلاسيكية الجديدة، مُقصِيةً فئة وازنة من الشعراء، لصالح قصيدة النثر التي احتلّت المساحات المتاحة، طولاً وعرْضاً، في الصفحات من دون «رقيب» يَعرف مستوى ما يُنشَر، ولا مدى خبرة أولئك «الشعراء» الذين غابوا وتجاربهم و«محاولاتهم» بغياب أسمائهم عن تلك المنابر!
والصداقة فعلَت فعلها، قبل أسابيع، حين طرح شاعر كبير آراء نقدية مفاجئة وغريبة الأطوار، في بلد عربي، فلم نسمع صوتاً من أصدقائه هنا يلومه أو يسائلُه نقدياً رغم استيائهم، ولا صوتاً لأحد مخالفيه يعترضه، على ما صرّح عن كبار مُقدَّرين عبر أجيال عدة، رغبة في عدم زيادة الطين بلّة بينهم!

وأغرب ما كان يحصل في مرحلة ليست بعيدة أن شاعراً كبيراً آخر كان لا يمتدح أحداً إلّا بشق النفَس، فإذا به حين كثُر تلاميذه ومقلّدوه شعرياً لا يترك مناسبة إعلامية إلّا ويعدّهم على الأصابع متباهياً بهم! فأين النقد وأهله في كل البراهين المُقدَّمة؟ لا وجود لهُ ولا لهم. إنها أنا الفنان التي يكرّمها ندماؤه، فيبادلهم بالمثل، وتبقى القيمة الأدبية الفعلية للأطراف كلّها، في مكان آخَر!

برهان آخر في مجال آخر: عندما عرَض الأخوان رحباني مسرحية «الشخص» كَتَبَ يومها الناقد الأبرز في إحدى أكبر صحف لبنان مقالاً يمتلئ سخرية عنوَانهُ: «ثلاثة أشخاص (المقصود عاصي ومنصور وفيروز) يتسلّون بالجمهور». وبعد سنوات كتب مقالة أُخرى اعتبَر فيها «الشخص» إحدى أكبر وأهمّ وأنجح المسرحيات الرحبانية. فماذا يُسمّى هذا… أهو مزاجية أم بوهيمية، أم توَهان مؤلم؟

والناقد الذي «يصبح» شاعراً أو روائياً أو إلخ… ينسى، على الفور، مرحلة كان فيها ناقداً وكان يطلب خلالها إلى الفنانين أن يتقبّلوا ما يَكتبُ عنهم بروح طيبة ويتركوا لهُ فضاءه النقدي ومعاييره للحكم على الأعمال الفنية، من دون حواجز… ويتحوّل إلى مُعادٍ لكل نقد يطاول عمله الأدبي «الشخصي»، وهو في هذا لا يناقض نفسه وأفكاره ومهنيّته فحسب، بل يطوّب تجربته الأدبية والنقدية بقداسة ويمنع على الآخرين أن يكونوا «شركاء» في التصويب ولَفت الانتباه إلى نواقص هنا، وزوائد هناك أو براعة أدبية ماثلة هنالك.

ولغَةُ النقد، عالَم من التطلّب الإدراكي، مستواها، اختيارُ مفرداتها، تراكيبُها، ووعيُ صاحبِها إلى مسؤوليته وأولها القدرة على التمييز، والخبرة، والقراءات التي لا تنضب وحُسْنُ التعلُّم مما يَقرأ، ليصبح قادراً على «التعليم» ولو لم يقصد ذلك… وهذا راجعٌ إلى كل ناقد على حدة. فمتى يمكن استخدام لغة الهدوء والروية والتبصّر، تجاه كتَاب وكاتب… ومتى يصلُح الدخول في لُغة الكسْر؟ إنّ الكِتاب الذي يتقِن صاحبُه موضوعَه وأسلوبَه وأدواته، يفرضُ بنفسه لغةَ الهدوء. أما الكِتاب الذي يضرب صاحبه عرْض الحائط بأيّ مقياس فني أو جمالي اعتماداً على الاستسهال، وعلى استِغشام قارئه وإدارة الظَّهر لهُ، ويطرح تجربته الضئيلة، كتُحفة فنية، فلُغة الكَسْر تلزمه ليستيقظ. وهذا تتم ممارستُه ولو لم يتم الاعتراف به أحياناً، ولن يكون فيه الناقد ظالماً. والنقاد الذين سيقرأون رأيي هذا، لطالما واجهَتْهُم كتُب من هذا القبيل، فتعاملوا معها بتلك اللغة التي ترسم الحدود الزاجرة أو… تجاهلوها وتجاهلوا كُتّابَها مؤثِرين مرورَ الكرام الذي له اسمٌ شعبي هو «التطنيش»!

الصداقة بين الناقد والفنان يلزمها تفهُّمٌ ودراية باستمرار، ووضوح، والإبقاء على مسافة لا «ترقص فيها رياح السماوات» كما يقول جبران، بل رياح الحقيقة في آرائنا ومشاعرنا معاً، وإلّا فالقضية تصبح تبعيّةً مَقيتة تقود إلى مقبرة معنوية! والبلد صغير والناس يعرفون بعضَهم. ولا ننسى ولن… مراحل كان فيها مسؤولو الصفحات الثقافية في لبنان، بسَوادِهم الأعظم، شُعراء أو روائيين، كيف كانت التمريرات -المقالات «المعظِّمة» متبادَلة بينهم، كلٌّ في صحيفته، وكيف كان النقاد غير المتموضِعين، وأساتذة الجامعات والشعراء والروائيون يحوكون المقالات عن أعمال أدبية لمسؤولي تلك الصفحات، أمَلاً في سداد هذا الدَّين في مقالات مقابِلة حين تدعو الحاجة. وهذا التّبادُل كان أبشع ما في تلك المرحلة من البيع والشراء في الثقافة! واليوم ليس بين هؤلاء وأولئك من يتصل بغيره للاطمئنان… على الصحة! ولعلّ خير من وصَفَ الموقف أعلاه، الشاعر الراحل عصام العبدالله حين قال: «أحلى ما لدى مدراء الصفحات الثقافية أنهم يتحزّبون لنوعٍ من الآداب، فيطعموننا إياه حتى نستفرغَه، ولِثُلّةٍ من الأشخاص حتى نضيق بهم، ويعتبرون «الأمن الثقافي» مُسْتَتِبّاً في البلد!».

يقال إنه لكي تعرف شخصاً حق المعرفة، سلِّمْه سُلْطة. الناقد سُلْطة، ويمارسُها كيفما أدارَ وجهه، وهي استعبادية عموماً حتى في أكثر أيامها رحابةً. ويقال إنه أفضل للناقد أن يكون ناقداً فقط من دون احتراف فن من الفنون خشية أن تتسع الأنا، فتصبح أنا الناقد وأنا الفنان. والاثنتان تحوّلانه إلى كائن يَعتقد بوحدانيّته. لدينا في لبنان تجارب من هذا النوع، كان فيها الناقد بلا أي احتراف فني، ومع ذلك فقد كان كتلةً من عصبية ومزاجية ونرجسية «حافظَ» عليها كل حياته، ومارس على الأوساط الأدبية والفكرية والفنية سطوة أمبراطور لا يُناقَش!
كل الشعارات الكبرى التي نسمعها عن دَور النقد والنقاد، هي طبلٌ أجوَف المراد به تحسين الصورة الذاتية لقائليها. أما في العمق، فالعكس صحيح. فقد حدّد المثقفون «أغيارَهُم»، ولن يجدوا في الكلام معهم ما يضيف شيئاً إلى «تمامِ» معرفتهم باللغة والأدب والفن والكون والدِّين والله، وربما أبعد.

 

إن الكتابة الإبداعية والنقدية مضروبةٌ، اليوم إنسانياً وموضوعيّاً بسبب تمجيد الذات -إفلاسها، من جهة، ومن جهات أخرى بفوضى إنتاج الكتب التي لا تعرِف لها رأساً من قدَم، وأسعار الكتب التي تجاوزَت قدرات المثقفين والقراء والناس أجمعين، وموتِ الصحافة المعلَن وغير المعلَن، وما تبقّى من الصحف انحسرَت فيه الصفحات الثقافية إلى حدود غير مسبوقة منذ ستين عاماً.

وإذا كانت الرواية هي الأكثر صدوراً ونشاطاً، فليس بسبب نبوغٍ باهر على الأرجح بل بسبب الجوائز الأدبية الأوفر عدَداً التي تُعطى للروائيين في العالم العربي والعالم بحيث بات كل كاتب رواية يربطها في «أحلامه» بهذه الجائزة أو تلك.

وأمّا الفنانون نجوم الغناء والتمثيل والموسيقى والمسرح وبرامج التلفزيون، فقد باعوا النقاد والنقد بقشرَة بصل «التواصل الاجتماعي» حيث «الرايتنغ واللايكات». وإذا صدَفت وقرأوا مقالة عنهم في صحيفة أو مجلّة، فسيَبدون أشبَهَ بمَن يقرأ عن مضار التدخين الداهمة، وفي يده «نبريش» أركيلة معسّل أبو الأحباب !

حقاً إنه زمن اللايقين في المستوى على كل صعيد أدبي وفني إلّا في ما ندر، والنادر موجود، وهو الذي يحمي المكان والزمان من أن تصبح الكتابةُ والفنونُ… ومعها النقدُ ظاهرةَ «فَسَاد»!

عبد الغني طليس

مقالات ذات صلة