الرياض لموفدي واشنطن: وصلتم متأخّرين!
سيكتب التاريخ يوماً عمّا إذا كانت إدارة جو بايدن في واشنطن وقفت وراء هذا “العبث” الذي ضرب كلّ النفوذ الأميركي العريق في الشرق الأوسط. انهارت كلّ وعود الخفّة التي قطعها بايدن (المرشّح للرئاسة عام 2019) بتحويل السعودية إلى “دولة منبوذة”. ويبدو أنّ الإدارة الديمقراطية مدعومة، حتى من خصومها الجمهوريين، تسعى بصعوبة هذه الأيام إلى ترميم ما تصدّع في علاقات أميركا التاريخية مع المملكة، وهي علاقات قلّما أصابها وهن منذ أن وضعت قواعدها قمّة جمعت الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت على متن البارجة “يو إس إس كوينسي” في البحيرات المرّة بقناة السويس في 14 شباط 1945.
و”العبث” هو استنتاج أميركي للأعراض الخطيرة لِما يشبه تفكّكاً للنفوذ الأميركي في الشرق. يكفي مقارنة الخرائط الجيوستراتيجية للمنطقة بما كانت عليه قبل عقد فقط (حتى لا نعود أكثر من ذلك) لنستنتج كمّ اللاعبين الذين باتوا إمّا منافسين لنفوذ واشنطن أو غير مكترثين بهيبتها الأسطورية وسطوتها التقليدية على ملفّات المنطقة. و”العبث العبث” هو أن تُنهي إيران والسعودية خلافهما البنيوي منذ عام 1979 على نحو يزلزل أساسات الخرائط التي ترسم وفقها إدارات واشنطن اصطفافات المنطقة. و”العبث” المكمّل هو أن تُسقط الرياض الفيتو الذي كانت تضعه على عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية، فتعود سوريا على الرغم من مواقف وبيانات وتحذيرات ونصائح واشنطن وحلفائها.
ارتكابات أوباما
ارتكبت الإدارة الديمقراطية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما خطيئة إبرام الاتفاق النووي مع إيران في فيينا عام 2015 من دون استشارة العرب، وخصوصاً السعودية وحلفاءها. لا بل أظهر أوباما حينها استعلاء على دول الخليج واستخفافاً بهم ناصحاً إيّاهم مشاركة النفوذ في المنطقة مع الإيرانيين. كاد في تلك النصيحة أن يقول استلحقوا الأمر وقد منحتُهُم مدَداً يميّزهم ويضخّم قوّتهم. كان حينها بايدن نائباً له، وحين “بات المُلك في يده” وعد بالعودة إلى الاتفاق متجاهلاً كلّ تحفّظات المنطقة بشأن ملفّات أخرى تقلقها أكثر من الملف النووي الذي يقلق إسرائيل وحدها.
أظهرت الإدارة الأميركية ركاكة في تعامل واشنطن مع حلفائها في المنطقة. يعود لها الفضل في إقناعهم بأنّ الولايات المتحدة لم تعد سقفاً موثوقاً يضمن للحلفاء الأمن والأمان. ويعود لها الفضل في تحرير كلّ العواصم من أوهامها والذهاب بلا رجعة إلى اكتشاف عواصم الدنيا. باتت العلاقات مع الصين وروسيا نهائية لا موسمية، وباتت الروابط مع بكين وموسكو استراتيجيّة لا تكتيكية عارضة.
غيّرت الرياض الشرق الأوسط. لم تفعل ذلك إسرائيل ولا منظومة الأطلسيين، ولم يفعل ذلك “التحالف بلا حدود” بين روسيا والصين. ارتكبت واشنطن خطيئة القرن فتمرّدت المنطقة وخرجت السعودية من “اتفاق كوينسي” وباتت في كلّ يوم تُبرز قدراتها على الدفاع عن مصالحها ومصالح حلفائها أوّلاً، مسقطةً قواعد باتت متقادمة في ألفباء العلاقة مع الولايات المتحدة التي نشأت قبل 78 عاماً.
واشنطن تتوسّل
خلال الأسابيع الماضية دفعت الولايات المتحدة بموفديها إلى السعودية على نحو يكاد يكون مخجلاً في عين أيّ مراقب أميركي. بدا في الأمر سعي من الولايات المتحدة لاسترضاء المملكة واستعادة “قصّة حب” قتلها جفاء وكثير من غباء.
زار السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام المملكة في نيسان. كان الرجل قد أفرط قبل ذلك في عدائه للرياض مستسهلاً إطلاق الوعيد ضدّها. أعلن بعد لقائه وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان اكتشاف ما يجهله عن “جنّات” المملكة. كان سبقه إلى الرياض في الشهر نفسه مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز. زار مستشار الأمن القومي جيك سوليفان المملكة أوائل أيار الجاري على أن يقوم وزير الخارجية أنتوني بلينكن بزيارة السعودية في حزيران المقبل. تأتي كلّ هذه الزيارات فيما لسان حال المملكة يقول “وصلتم متأخّرين لكن أهلاً بكم، كلّنا آذان صاغية”.
ليس صحيحاً أنّ سوليفان جاء يحمل ملفّ التطبيع مع إسرائيل. وتكاد المعلومات تجزم أنّه لم يفعل، وليس الأمر من أولويات بايدن وفريقه في عهد بنيامين نتانياهو من جهة، وسعيه إلى الخروج من “ورطة” أزمة العلاقات مع الرياض من جهة أخرى.
وليس صحيحاً أنّ همّة رُسل واشنطن تطمح إلى وقف عجلة التاريخ وتغيير مسارات تمّ رسمها، سواء في ما تحقّق من تقارب صيني مع السعودية منذ زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للمملكة في كانون الأول 2022 أو ما خطّه اتفاق الرياض وطهران في بكين في 10 آذار الماضي، أو حتى ما بات عميقاً متجذّراً في تحالف روسيا والسعودية داخل مجموعة “أوبك بلاس” في مجال الطاقة، وخصوصاً منذ ردّ الرياض طلب بايدن عشيّة الانتخابات النصفية في تشرين الثاني 2022 لرفع تصدير النفط وإراحة الأسواق (حتى يرتاح الديمقراطيون في تلك الانتخابات).
سمع موفدو الولايات المتحدة على مدى الأسابيع الأخيرة كلاماً واضحاً في الرياض. لن نتخلّى عن روابطنا الجديدة الطموحة مع أيّ قوّة اقتصادية أو سياسية في العالم بما يضمن مصالحنا ومصالح المنطقة أوّلاً. لكنّنا لسنا بصدد التخلّي عن تحالف تاريخي وصداقة عريقة مع الولايات المتحدة حتى لو أظهرت الإدارة الحالية خفّة مقلقة في احترام هواجسنا والالتزام بقواعد التحالف وتقاليده.
سيكون على واشنطن أن تستجيب لمطالب الرياض في شؤون الأمن والدفاع والصناعات العسكرية، ولطموح المملكة إلى امتلاك برنامج نووي شفّاف للأغراض المدنية.
سيكون على واشنطن احترام إرادات جيوستراتيجية جديدة أسفر عنها الاتفاق السعودي الإيراني، بما في ذلك مباشرة مقاربة (باتت عربية) لتصفير المشاكل البينية والشروع في صناعة تسويات إقليمية تضع حدّاً لعبث لا يكاد ينتهي داخل بلدان المنطقة.
سيكون أيضاً على واشنطن أن تقتنع أنّ العالم يتغيّر وأنّ المنطقة تتغيّر وأنّ قرارات السعودية تُصنع في الرياض ولا تنهل أيّ مؤثّرات من أمزجة القوى الكبرى وأجنداتها.
سيكتب التاريخ يوماً أنّ خطايا بايدن أيقظت في المنطقة وعياً وخرائط وعقائد لم تعرفها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط منذ أن غادرت “كوينسي” مياه المنطقة حاملة روزفلت إلى بلاده في أربعينيات القرن الماضي. انتهى ذلك الزمن وبات يصعب على دبلوماسيّي واشنطن إعادة عقارب الساعة إلى ذلك الزمن المندثر. ذهبت المنطقة بعيداً في قياس المسافات مع واشنطن، وربّما لم تكن لتفعل ذلك لو أنّ ساكن البيت الأبيض كان أكثر فطنة وحصافة وأقلّ ثرثرة في الإطلال على شؤونها.
أساس ميديا – محمد قواص