ماذا تبقّى من انتخابات 1970 في 2023: اي منتصر واي خاسر؟؟
المعلوم في الوقت الحاضر ان الجميع، بعصا غليظة من الخارج، يستعجلون انتخاب الرئيس. كل ما يحكى الآن ليس عن موعد الجلسة، بل كيف الخروج منها: اي منتصر واي خاسر؟ صار مألوفاً ايضاً ما لم يكن كذلك في الشهور المنصرمة: الذهاب الى اقتراع فيه متنافسان…
نصف مرات انتخاب رئيس للجمهورية منذ الاستقلال كانت في الدورة الثانية. إما بسبب وجود متنافسيْن اثنين او اكثر ما حال دون حصول المرشح الاوفر حظاً على ثلثي الاصوات في الدورة الاولى، او لأنه لم يحز غالبية الثلثين في الاقتراع الاول دونما ان يكون ثمة منافس سوى ان معارضيه حجبوا عنه الاجماع. لا قاعدة اساسية تُخيّر بين كل من دورتيْ الاقتراع سوى المعطيات الاخيرة التي تكون انتهت اليها مواعيد انتخاب الرئيس. من الدورة الاولى انتخب اول رئيس استقلالي قبل الاستقلال بشهرين هو بشارة الخوري. ثاني رؤساء الدورة الاولى كميل شمعون اول رئيس انتخب خارج المهلة والموعد الدستوريين بسبب استقالة سلفه. ثالثهم شارل حلو رغم منافسة بيار الجميل له بخمسة اصوات، فأمين الجميّل واميل لحود وميشال سليمان بلا منافسين.
في المقلب الآخر سبعة انتخبوا رؤساء من الدورة الثانية لكل منهم خصوصية، وفي انتخاب كل منهم درس لا يشبه الآخر عبّر عن مرحلة استثنائية اكثر منها عادية. المنطق الطبيعي ان الظروف الاستثنائية تنتخب الرئيس في الدورة الاولى، والظروف العادية تأتي به من الدورة الثانية. لم تصح القاعدة هذه سوى مع ميشال سليمان فقط في دفعة الدورة الاولى. اتت «ثورة 1958» بفؤاد شهاب من الدورة الثانية، و«حرب السنتين» وتحالف دمشق و«الجبهة اللبنانية» بالياس سركيس من الدورة الثانية. أتى الاجتياح الاسرائيلي وطرد المنظمات الفلسطينية من لبنان ببشير الجميّل من الدورة الثانية، ثم من بعده رغم الاجماع على اتفاق الطائف لم يفز رينه معوض سوى من الدورة الثانية. لم يسع انتخاب الياس هراوي سوى في الدورة الثانية رغم ان لا مرشح سواه. اثنان في الدفعة هذه سجّلا سابقتين: سليمان فرنجية بانتخابه من الدورة الثالثة، وميشال عون من الدورة الرابعة. كلتا الاخيرتين توجبان الاكثرية المطلقة كالدورة الثانية وما يليها.
فحوى المراجعة هذه ان انتخاب الرئيس في الدورة الثانية عبّر، دائماً وبلا ارتياب، عن المغزى الفعلي للانتخاب. هو التقليد والقاعدة لا الاستثناء. في ما يقال اليوم عن احتمال ذهاب البلاد الى انتخاب رئيس من بين متنافسيْن اثنين كأنما المراد به الايحاء بأن البرلمان يُجرِّب ما لم يعتده، في حين انه يستعيد – ويقتضي ان يستعيد – ما رافق مسار استحقاقات مماثلة سابقة. من بين المحاولات الثلاث عشرة الماضية لبثت في الذهن والذاكرة انتخابات 1970 على انها المرة الاولى والوحيدة استعر الاحتدام فيها بين مرشحيْن اثنين – ولم يكونا كذلك في الدورة الاولى بل نافسهما ثلاثة آخرون احدهما رام تسجيل موقف هو عدنان الحكيم – الى ان فاز فرنجية على سركيس بفارق صوت واحد.
معارضو فرنجية نزلوا من مركبة التعطيل وصعدوا في مركبة الترشيح
الانطباع الشائع عن الكلام المتواتر في الايام الاخيرة بينما البلاد مقبلة على انتخاب الرئيس في اقل من شهر، ان المنافسة تقتصر على رئيس تيار المردة سليمان فرنجية والوزير السابق جهاد ازعور. منذ اليوم الاول للشغور اختار الثنائي الشيعي فرنجية مرشحاً نهائياً له يبصره من الآن رئيساً اذا التأم نصاب الثلثين في القاعة. معارضوه المسيحيون الحائلون دون وصوله بسبب امساكهم بالكتلة المسيحية الاوسع تمثيلاً انتقلوا من مركبة تعطيل النصاب الى مركبة المرشح المنافس واختاروا ازعور. بعدذاك، الى ان يحدد رئيس البرلمان نبيه برّي موعد الجلسة، يدور الاهتمام من حول حسابات البوانتاج والاصوات التي يحملها كل من الطرفين الى جلسة الانتخاب. القاطع المعلن ان أوان انتخاب الرئيس، في حسبان الخارج المؤثر في الاستحقاق، قد حان اخيراً.
على ان الاتعاظ بتجربة 1970 يحتم الاخذ في الاعتبار اولاً واخيراً بعض المعطيات التي رافقتها او انتهت اليها ومدى صحة مقاربة ما حدث في الماضي بما قد يحدث قريباً:
1 – يقول مرشِّحو ازعور انهم يخوضون معركة اسقاط مشروع مرشِّحي فرنجيه المسمّى الممانعة بالحؤول دون وصوله الى الرئاسة وتمكين حزب الله مجدداً من الامساك بالنظام والدولة. عندما خاض «الحلف الثلاثي» و«تكتل الوسط» انتخابات 1970 بفرنجية ضد سركيس كانوا السبّاقين بدورهم الى القول انهم توخوا اسقاط الشهابية كمشروع برمتها من خلال اسقاط مرشحها. في نهاية المطاف بفوز فرنجية، في مرحلة كانت لا تزال تتسم بالكثير من آليات الديموقراطية، نجح الرابحون في تقويض الشهابية بكليتها في الجيش والحكم والادارة، وطووا صفحتها. كان الرئيس المنتخب آنذاك رأس الحربة. هل لا يزال الدرس السابق صالحاً للتعميم اليوم في حقبة ما بعد اتفاق الطائف؟
2 – أحد الاسرار المفترضة في انتخابات رئاسة الجمهورية، المعبّر عنها في الاقتراع السرّي، انه صندوق مقفل قبل اتفاق الطائف لا بعده. آنذاك كمن سرّها في مفاوضات الايام والساعات الاخيرة. منذ ما بعد اتفاق الطائف تقيم الفضيحة في كل انتخاب رئيس. في انتخابات 1970 تقدّم سركيس على فرنجية في الدورة الاولى بفارق تسعة اصوات (45×36). في دورة الفوز الثالثة اضحى الفارق صوتاً واحداً. آنذاك كان الشهابيون متيقنين من فوز مرشحهم بعد وعود تلقوها من النواب. سبعة من هؤلاء على الاقل وعدوا غابي لحود وأقسموا له انتخابهم سركيس. بافتضاح لعبة المفاتيح، السارية حينذاك والمحظرة منذ ما بعد اتفاق الطائف، اكتُشف انتقال أصواتهم الى فرنجية. ما يدور في حسابات الافرقاء الحاليين، المحسوب انهم ذاهبون الى معركة كسر عظم، اخذهم في الحسبان ان الصناديق المقفلة وحدها تعرف أسرارها وخباياها، الاوفياء والمخلصين لكن ايضاً الكاذبين. في نهاية مطاف انتخابات 1970 اكثر من طرف زعم انه صاحب الصوت الواحد الذي مكّن فرنجيه من الفوز. لم تعد اسقاط مشروع وحقبة برمتها كي تخلفها اخرى، مقدار الاصرار على الاستثمار الشخصي للصوت الذي انتخب به الرئيس السابق. حينذاك حسم فرنجية المزاعم تلك بقوله انه نجح بصوته هو لا بصوت سواه.
3 – تكمن اهمية استعادة انتخابات 1970 دون سواها في رد الاعتبار الى الآلية الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية. لا يريد الافرقاء الحاليون ان يستمدوا منها سوى نتائجها الاخيرة. ما لا يُنسى من ذلك الحين ان الاستحقاق اجري في المهلة الدستورية وقبل انقضاء الشهر الاول فيها (17 آب 1970). عقدت الجلسة السادسة مساء الاثنين بعد 48 ساعة على ترشيح «الحلف الثلاثي» فرنجية الذي لم يكن في وارد الترشح. فصل بين الدورتين الاولى والثانية تعليق الاقتراع لفسحة مشاورات يصير في خلالها الى الاتفاق على مرشح ثالث بين فرنجية وسركيس، فأخفق مسعى رشيد كرامي تسمية موريس الجميّل. في حصيلة التعثر احتكموا الى الاصوات. في الغداة كان يوم آخر.
نقولا ناصيف- الاخبار