أمر غير مسبوق منذ زمن طويل: هل هذا سيناريو واقعي أم خيالي؟
يقول البعض إنّ أي مقاربة للوضع اللبناني خارج إطار التطور الاستراتيجي المتمثِّل بالاتفاق السعودي-الإيراني هي مقاربة خاطئة، ومفاعيل هذا الاتفاق، إذا استمر، ستظهر تباعاً وتدريجاً.
يقول هذا البعض: صحيح انّ وزير الخارجية الإيراني أتى إلى لبنان ليؤكِّد بأن المواجهة مع إسرائيل خارج الاتفاق بين الرياض وطهران بما يعني انّ الأذرع الإيرانية لن تنضوي تحت سقف التفاهم وستحتفظ بسلاحها ودورها، ولكن الحدود اللبنانية مع إسرائيل، قبل الترسيم البحري، هادئة ومستقرة، وكيف بالحري بعد هذا الترسيم الذي سيحوِّلها مع الوقت أكثر استقراراً خصوصاً عندما تُباشر الشركات باستخراج الغاز؟
فالجميع يعلم ان إسرائيل هي الشمّاعة التي تستخدمها الممانعة للاحتفاظ بسلاحها من جهة، ودورها الهادف إلى السيطرة على مفاصل الدول التي تنشط داخلها من جهة أخرى، وبالتالي العنوان هو إسرائيل فيما الهدف الفعلي هو التمدُّد وإحكام قبضتها على مفاصل السلطة والقرار، وهذا بالذات ما سيتم ضبطه من الآن فصاعداً كونه يندرج تحت سقف التفاهم السعودي-الإيراني.
فالرهان على تسليم «حزب الله» سلاحه هو رهان واهم حالياً، والرهان الفعلي يجب ان يكون على تعطيل مفاعيل هذا السلاح في الحياة السياسية اللبنانية، وهناك فرصة اليوم لتعطيله من خلال الكلام مع مرجعيته في كل مرة يلجأ فيها إلى التعطيل، وذلك من خلال إحياء المعادلة التي حكمت لبنان مع الرئيسين فؤاد شهاب وعبد الناصر بعد ثورة العام 1958، فعبد الناصر شكّل الضمانة لتهدئة الشارع السني، ودوره تتولاه اليوم المملكة العربية السعودية، فهل يمكن مثلاً إحياء هذه المعادلة وإسقاطها على الواقع الشيعي الممسوك سلطوياً من قبل «حزب الله» و»حركة أمل» بأن تتحوّل طهران إلى ضابط إيقاع حركة هذا الثنائي والضامنة لانخراطهما في مشروع الدولة اللبنانية؟
فالمملكة العربية السعودية لم توقف دعمها للبنان بسبب دور «حزب الله» في صراعه مع إسرائيل، علماً ان هذا الدور يشكل انقلاباً على اتفاق الطائف ويمنع قيام دولة فعلية في لبنان، إنما علّقت مساعداتها بعد توسُّع دور الحزب الإقليمي في سوريا واليمن والتحريض ضدها سياسيا وإعلاميا وتحويل المربّعات الأمنية للحزب إلى مراكز تدريب للميليشيات التي تقاتل ضد المملكة، وكل هذا الدور انتهى مع الاتفاق بين الرياض وطهران وتفكيكه بدأ ويتواصل بخطوات ثابتة.
فالأزمة الفعلية في لبنان سببها المشروع الإيراني التوسّعي، ومعالجة هذا الجانب لا تكون مع «حزب الله» الذي يقوم بالدور المطلوب منه إيرانياً، إنما تكون مع القيادة الإيرانية نفسها، ومجرّد ان تقرِّر هذه القيادة الاتفاق مع السعودية يعني انها جمّدت مشروعها التوسعي وقرّرت تحويل دورها من أمني إلى سياسي ولو احتفظت أذرعها، مرحلياً، بسلاحها، ما يعني ان دور الحزب في شقه اللبناني سيكون تحت سقف التفاهم الإقليمي، وفي شقه الإسرائيلي مجمّد أساساً كونه لا يريد الحرب مع تل أبيب ويخشاها وبيئته ترفضها ولا تتحمّلها، وجلّ ما يريده التمسُّك بالعنوان لأسباب تعبوية وعقائدية من دون ترجمات عملية.
وكل نظرية وحدة الساحات التي أُطلقت مؤخراً سقطت مع أحداث غزة الأخيرة التي اغتالت فيها إسرائيل قادة من «الجهاد» وشنّت حرباً على هذا التنظيم، ولم يجرؤ «حزب الله» على الدخول على خط المواجهة دعماً لهذا الفصيل، وعندما أطلقت صواريخ «حماس» من جنوب لبنان نأى بنفسه الحزب عنها، علماً انّ الجميع يعلم بأنه مَن أطلق هذه الصواريخ باسم «حماس» تجنّباً لردّ إسرائيلي ضدُّه وضغوط داخلية سياسية وشعبية مندِّدة بإقحامه لبنان بصراعات لا طائل منها، ما يؤشر بوضوح إلى انّ الحزب يتمسّك بالعنوان الصراعي فقط لا غير.
وماذا يبقى من «حزب الله» عندما يخرج من اليمن والعراق وسوريا، ووجوده أساسا في سوريا أصبح هامشياً؟ وماذا يبقى منه عندما يوقف تحريضه ضد المملكة وقد أوقفه؟ وماذا يبقى منه عندما لن يكون باستطاعته استخدام سلاحه في الداخل؟ وماذا يبقى منه عندما يُضطر إلى تنظيم التعايش السياسي مع أخصامه وتحويل لبنان إلى مساحة مستقرة لا متفجِّرة؟
والتفاهم بين الرياض وطهران يعني دخول المنطقة في حقبة جديدة، ولن يكون لبنان استثناءً فيها، لأنّ «حزب الله» يتأثّر بدور المركز المحرِّك له، وعدم شمول لبنان بمفاعيل هذا الاتفاق بعد مَردّه إلى استمرار الاشتباك حول الانتخابات الرئاسية، وفي اللحظة التي سيُعاد فيها إنتاج السلطات الدستورية بشكل توافقي ترجمة لتسوية رئاسية جديدة تبدأ مفاعيل الوضع الإقليمي بالظهور تدريجا، باعتبار انّ الاشتباك اللبناني سابق للاتفاق، ومع أفوله يدخل البلد في مرحلة جديدة.
ويتابع هذا البعض المتفائل بالمرحلة المقبلة شَرح مقاربته: شهد لبنان ثلاث مراحل أساسية منذ خروج الجيش السوري في العام 2005: مرحلة إخراج 14 آذار من السلطة التي انتهت في العام 2011، مرحلة الانخراط في الحرب السورية وعودة سياسة ربط النزاع التي انتهت في العام 2016، مرحلة التسوية الرئاسية التي استعَرت فيها حملات «حزب الله» ضد السعودية من جهة، والمواجهات السياسية الداخلية وأبرزها انتفاضة شعبية من جهة أخرى، فيما أي تسوية رئاسية جديدة على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» ستستفيد من وضع إقليمي مساعد، وهذا أمر غير مسبوق منذ زمن طويل، وستشكّل فرصة للبنانيين من أجل ترتيب أوضاعهم واختبار مدى قدرة الفريق الحاكم الجديد على تغيير الممارسة السلطوية.
ومع انتفاء ثلاثية الحرب مع إسرائيل، والحروب الإقليمية، والتحريض ضد السعودية، تكون السياسة الخارجية قد انتظَمت تحت سقف الدولة بشكل أو بآخر، وهذه الملفات كانت انعكاساتها سيئة وكبيرة على الواقع اللبناني، ما يعني استفادة لبنان من الدعم السعودي مجدداً، وما بين هذا الدعم وعودة الانتظام إلى مؤسسات الدولة الذي يولِّد ترييحاً داخلياً، يستعيد لبنان أنفاسه.
والتحدّي الأكبر سيكون على الفريق الحاكم، رئيس الجمهورية رئيس الحكومة والحكومة، لأن الاستفادة من المناخات التبريدية الإقليمية، كما الاستفادة من الدعم الخليجي والسعودي تحديدا، لا تكفي كَون المساعدات ستتبخَّر بسبب الفساد المستشري، وبالتالي التحدّي الأساسي سيكون بالتأسيس على الأجواء المساعدة من أجل الشروع في إصلاحات جدية وإدارة الدولة بذهنية مختلفة بعيداً عن السمسرات والصفقات والتهريب وسياسة «مَرّقلي تا مرّقلك»، أي وجود فريق حاكم يستقوي بالتفاهم الإقليمي من أجل بناء دولة فعلية في لبنان.
فهل هذا السيناريو الذي يتحدّث عنه البعض واقعي وممكن وقابل للترجمة العملية أم يندرج في باب التمنيات والوهم والخيال؟
شارل جبور- الجمهورية