الوطن الرحباني المعلّق بين السماء والأرض… لماذا اتّهَموا الأخَوَين بالضحك علينا ؟

هناك انطباعٌ عام بأنّ مسرح الأخوين رحباني قدّم للجمهور وطناً (المقصود لبنان) خيالياً، غير واقعي، شاعريّاً وساحراً، كأنه من صناعةٍ فانتازية جمالية أكثر مما هو حقيقي ويشبه لبنان. وهذا الإنطباع يسري بين بعض اللبنانيين، خصوصاً المثقفين وحتى السياسيين الذين في حواراتهم الإعلامية يسخرون من هذه الصورة الوردية ويقولون إنهم واقعيون لا يبنون في قناعاتهم على قاعدة «الوطن الرحباني» المعلّق بين السماء والأرض من البَحبوحة والرقي والعنفوان، بل على المعطيات المحسوسة الملموسة التي تعاكس ذلك…

هذه إحدى الخرافات الباهتة عن مسرح الأخوين، ولا وجود لها في نصوص المسرحيات وفي ثنايا القصص التي قدّماها بقدر وجودها في بعض العقليات القصيرة النظر. فعاصي ومنصور، كأيّ كاتبين ذكيّين مدركَين حال لبنان منذ الإستقلال وما قبله، وعارفَين بالتاريخ اللبناني وبالواقع السياسي الوطني العام، لم يتصرّف مسرحهما مع فكرة الوطن على الطريقة الفوقية، أي النظرية، لكن حُلمَهما كان وطناً قويّاً منيعاً فيه الكثير من المعاني السامية. والأخَوان مثلُهما مثل غيرهما من المفكّرين الملتزمين البعد الإنساني العالي، كانا، عند التوجّه إلى الموضوع الوطني، يضعان نصب أعيُنهِما جانبين:

الجانب الواقعي ومشاكل البلد الكبيرة والصغيرة والنظَر إليها بعين بصيرة تنتقد وتسخر وتدقق في التفاصيل وتمررها في غضون المسرحيات لا كدرس في الوطنية والسياسة وإنما كمشكلة تحتاج حلّاً. في «هالة والملك» تكشف الصبيّة الفقيرة (فيروز في القصة) مجتمع المملكة الغارق في الفساد من رأسه إلى قدميه، وتُعرّي البطانة التي تحيط بالحاكم، وتجعله يعيد النظر في كل التركيبة «الداخلية» لأصحاب المسؤولية في المملكة. فأين الوطن الخيالي؟ في «جبال الصوّان» نُشاهد قدر الإستشهاد في البلاد المحتلّة وينتصر المظلوم على الظالم… فأين الوطن الخيالي؟ في «ناطورة المفاتيح» عندما لا يستطيع الشعب المقهور تغيير قواعد القمع والإستبداد التي يقرّرها الحاكم، يعمد الشعب كلّه إلى الهجرة تاركين الأرض بدون شعبها ليحكم الحاكم الفراغ… وتنتهي المسرحية باستفاقة الحاكم على وضعه المزري بدون شعبه، فيدعو شعبه إلى العودة مبدّلاً من شخصيته ليتحول إلى العدل والمحبة مع الناس. نَعَم هذه قصة خيالية وهذا حقّ للكاتب أن يتخيّل ويؤلّف عمله الفني لكنّ المعاني كلها، خلف هذا الخيال القصصي، حول قيم العدالة والمساواة والمكاشفة بين السّلْطة والناس التي تبني أوطاناً. فأين هو الخيال المجرّد كما يدّعون ؟ في «الشخص» تضرب المسرحية فكرة تأليه الحاكم واستجرار رضاه والإحتماء بمظاهر خادعة خوفاً على المناصب، على حساب المواطن وقهره. فأين الوطن الخيالي ؟ ولن أعُدّ بقية المسرحيات فهي موجودة ومتاحة للجميع…

غير أن الجانب الآخر الذي يصرّ عليه المفكر المبدع حين يرسم وطنه أو يكتبه أو يفكّر فيه هو مساحة من الأمل والرجاء والإرادة في التغيير. الكاتب يرى أبعد من الواقع. يرى الواقع لكنه ينفَد منه إلى الوطن الحلم. فمَن مِن المواطنين الواعين ظروف بلدهم لا يترك حتى في خياله أملاً باستقامة وضعٍ، أو بقيامة شعب من المصيبة؟ والرحباني كان، ببساطة، من هذه العقلية التي لا تكتفي بتصوير الوقائع على الخشبة، بل تتجاوزها إلى الأجمل والأكمل والأغنى. والأغاني، والمَشاهد الغنائية التعبيرية كلها تصب في هذه المعادلة: رؤية الواقع وتحديد أدواته ومعطياته، والسماح للنفس بأن تتطلّع إلى الأسمى. وليست مشكلة الرحباني أن بعض الناس أخذوا الصورة الأسمى ونسوا أنّ صورة الحياة الطبيعية اليومية كانت حاضرة في مسرحهما الغنائي بقوّة.

ad

وأخيراً، في هذا الموضوع، هل تُلام الأحزاب السياسية في أي بلد، مثلاً، إذا أدرجَت في مبادئها وقوانينها الحزبية تصوراتها لمستقبل جميل وزَاهٍ ونوراني للبلد… حتى وهي تعاني في واقعها من الفساد المدمّر؟

فإذا «سُمِح» للأحزاب السياسية، وهي التي يفترض التصاقها بالأرض والناس والواقع، أن تتصوّر المثل الأعلى للبلد… فكيف يُمنَع عن الفنان المبدع، الخيَالُ والإبتكار والمثاليّات الطالعة من خميرة القيم الأفعل في حياة الشعوب ؟

وفي تقديري إن حبّ الجمهور اللبناني للمسرح الغنائي الرحباني، وحفْظ أغلب مقاطع المسرحيات عن ظهر قلب، نابع من انتماء هذا المسرح إلى تطلعات هذا الشعب، ومن طَرْقه على الأبواب الروحية والإنسانية فيه، ومن كَشفه الواقع والحلُم معاً. وليس عبثاً أن أغلب الأحزاب المتقاتلة خلال الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات، كانت تبثّ في إذاعاتها المسرحيات الرحبانية في وقت واحد. والمعنى أنّ كل طرف كان يعتبرها تعبّر عن لبنانه. فوحّدَ المسرح الغنائي الرحباني، اللبنانيين قبل «إتفاق الطائف» الذي أنهى تلك الحرب.

أمّا ما قرأناه وما زلنا من بعض المفكرين اليساريين أو اليمينيين (بالتعبير القديم) في لبنان عن ميل الأخَوين إلى هذا العهد أو ذاك من عهود الحكم اللبناني ، أو إلى هذه الفكرة أو تلك من أسلوب بناء السّلْطة ومعنى المجتمع، فلا يعدو كونه محاولات لإسقاط واقع فكري معين على مواقف المسرحيات الرحبانية، وتجريب التحليل الطبقي أو الطائفي عبر الفنّ الرحباني، من دون أن أنكر هنا قرب أو بُعد الأخوَين عن هذه الفكرة أو تلك في السياسة ، فاللبناني مفطور على السياسة سواء كان مدركاً فيها أم عفوياً، لكنّ عاصي ومنصور كانا يؤمنان أن الفنون الشعرية والموسيقية والحوارية أكبر من أن تُسجن في قفص فكري تنظيري لخدمة هدف سياسي حزبي أو فئوي محدّد.

عبد الغني طليس

مقالات ذات صلة