السنّية السياسية ودورها: الماء تسرّبت من بين أيديهم كتسوية 2016 المدمّرة !
يستذكر كثيرون في هذه الأيام تجربة العام 2016، ولحظة الوصول إلى التسوية التي أنتجت انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية وسعد الحريري رئيساً للحكومة. مناسبة الاستذكار هو التشابه في مواقف المملكة العربية السعودية في تلك الفترة والآن. في تلك الفترة لم تعط السعودية موقفاً واضحاً، فيما كانت هناك ضغوط دولية وإقليمية كبيرة في سبيل انتخاب ميشال عون. وهو مسار عملت قوى خارجية على تعزيزه، ولا سيما الأميركيين، في ضوء مفاوضاتهم مع إيران ومنحها مكتسبات في المنطقة من سوريا إلى لبنان. وكان ذلك بمواكبة البريطانيين والفرنسيين الذين شاركوا بقوة في نسج مقومات التسوية وتعزيزها. كان هذا المسار قد انطلق في العام 2013، وتجلى في المفاوضات الأولى بين ميشال عون وسعد الحريري في باريس، وتمت عرقلتها في حينها من وزير الخارجية السعودي الراحل، سعود الفيصل.
الحكم على أداء!
تجددت هذه المفاوضات والمساعي في العام 2015، وعلى وقع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية. رحل سعود الفيصل، فذهب سعد الحريري إلى تبني خيار سليمان فرنجية. وهو ما طرح سؤالاً لا يزال قائماً إلى اليوم بلا أي إجابة، إذا ما كان دفع الحريري لاختيار فرنجية هو أمر يهدف لتوحيد القوى المسيحية للذهاب باتجاه اعتماد خيار ميشال عون، وبعدها عودة الحريري لدعمه. عندما اختار الحريري دعم عون لرئاسة الجمهورية لم يكن هناك موقف سعودي مؤيد، إنما كان هناك موقف دولي جامع يقف خلف هذا الخيار، فيما اتخذت السعودية موقفاً مشابهاً للموقف الحالي والمستجد، تجاه الاستحقاق الرئاسي، بالقول إنه ليس لديها أي فيتو على أي مرشح، وليفعل اللبنانيون ما يجدونه مناسباً وليتحملوا مسؤولية خياراتهم، وإن السعودية ستحكم على الاداء.
النواب السنّة
كرست السعودية موقفها الحيادي هذا، بدعوة وجهها السفير السعودي وليد البخاري إلى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. سبق زيارة فرنجية إلى اليرزة لقاء جمع البخاري مع نواب كتلة الاعتدال، وتبع الزيارة أيضاً لقاء ثان بين السفير السعودي والنواب السنّة. خلاصة اللقاء كانت بالبيان الذي صدر عن هؤلاء النواب، بالإشارة إلى التزامهم انتخاب رئيس للجمهورية يحترم الميثاق والدستور واتفاق الطائف، ولديه علاقات مع كل اللبنانيين، ويسعى لتعزيز علاقات لبنان العربية. والأهم، تأكيد النواب عدم تعطيل جلسات الانتخاب والمشاركة بها.
من يعرف حقيقة مواقف هؤلاء النواب يعلم أن غالبيتهم تتجه باندفاع إلى خيار سليمان فرنجية، حتى صدرت تفسيرات كثيرة عن سبب لقاء السفير السعودي بهم مرتين. التفسير الأول، يشير إلى انه بعد اللقاء الأول فسر النواب عدم وجود فيتو سعودي على فرنجية بأنه إيجابية باتجاه الرجل، وقد أبدوا الإستعداد للتصويت له، فاقتضى الأمر زيارة البخاري لهم لتصويب الموقف. فيما التفسير الثاني، يفيد بأن اللقاءين يرتبطان بتعزيز العلاقات بين الجانبين مع التشديد على عدم تدخل السعودية وعدم الموافقة على تعطيل الاستحقاق.
كرة النار
فتح هذا المسار الباب أمام تأويلات كثيرة، وتساؤلات حول إمكانية تشابه عملية إنجاز الإستحقاق الحالي بما جرى في العام 2016، حين أخذ سعد الحريري على عاتقه انتخاب ميشال عون، فيما السعودية لم تكن مندفعة أو متحمسة، وتركت الأمر على عاتق اللبنانيين. انتخب ميشال عون بنتيجة موقف سنّي إيجابي تجاهه. من هنا يبرز تعويل كبير لدى حلفاء سليمان فرنجية، وخصوصاً حزب الله والرئيس نبيه برّي على موقف النواب السنّة، خصوصاً أن الطرفين يحتسبان حوالى 10 نواب سنّة، من غير حلفائهما، أي السنّة غير المحسوبين بشكل مباشر على 8 آذار، بأنهم سيصوتون لفرنجية. وبذلك ستكون كرة النار الانتخابية للاستحقاق الثاني قد وضعت في يد السنّة. لا سيما أن عدداً كبيراً من هؤلاء النواب لديهم حسابات ليست ذات بعد استراتيجي أو سياسي، إنما هناك حسابات مناطقية تتصل بالخدمات، وحسابات ترتبط بسياق تطور العلاقات بين الدول العربية والنظام السوري، وما سيعود عليهم إما بالنفع أو الضرر، أو بالمغريات، خصوصاً نواب الأطراف.
النتائج المدمرة
عملياً، كانت نتائج تسوية 2016 مدمّرة على السنّة سياسياً، وفيما كان سعد الحريري أول المبادرين إلى منطق التقاطع والتهدئة وربط النزاع مع حزب الله، انطلاقاً من قناعة لديه بأن المجتمع الدولي والقوى العربية ستذهب إلى حوار مع إيران، فأراد هو استباقه في لبنان وتحييده عن أي مقومات للانفجار، إلا أن الأحداث التي حصلت فيما بعد إقليمياً وداخلياً أدت إلى تفجر الأوضاع. وبوصول الحريري إلى الإنكفاء عن الساحة السياسية كانت نتيجتها واضحة، وهي إنهاء أي مقوم من مقومات قوة “السنية السياسية”.
استراتيجياً، لا بد من تسجيل إيجابية لما انتهجه سعد الحريري. ولكن تفصيلياً وتكتيكياً، الاندفاع الذي أقدم عليه باتجاه ميشال عون وحزب الله والتنازلات الكبرى التي قدّمها، لم يحمه من الانقلاب عليه. وهو في كل الأحوال مسار مشابه كثيراً للاندفاع الخليجي أو السعودي باتجاه إيران والنظام السوري من دون أي شروط أو مقومات حتى الآن، ومن دون أي ضمانات تتصل بتنفيذ ما اتفق عليه.
لم يكن التدهور الذي أصاب الحالة السنّية في لبنان والتشتت والتشظي، بالأمر التفصيلي، فهو لا يمكن فصله عن تدهور أحوال السنّة في سوريا، والعراق، وسط غياب كامل لتأثيراتهم في المعادلة. وهذا ما يجعل موقعهم أضعف في لبنان حالياً من بوابة التسوية الرئاسية. وهو ما يدفع حلفاء سليمان فرنجية إلى المراهنة عليهم في تأمين مقومات إنجاحه في الانتخابات. ذلك لا ينفصل عن أحوال السنّة في سوريا، والذين يراقبون مسار تطبيع العلاقات مع النظام من دون توفير أي مقومات لعودتهم السياسية أو إلى المشهد وإلى بنية الدولة من جهة، ومن دون ضمان مسألة توفير عودتهم الآمنة إلى ديارهم، لا سيما أن مشروع التغيير الديمغرافي في سوريا وتهجير أهلها ممنهج، يتعلق بفكفكة هذه الكتلة الكبيرة اجتماعياً لصالح إقامة “توازن ديمغرافي” مختلف يريح “الأقليات” ويريح إسرائيل في إعلان يهودية الدولة وقوميتها. وهذا مشروع جرى بالارتكاز على حال الفرجة العالمية، بدءاً بأميركا وليس انتهاءً بأوروبا.
عليه، سيتوهم السنّة أنهم قادرون على صناعة التسوية أو أن السياسة تصنع من قبلهم، ليكتشفوا بعدها أن الماء قد تسرّبت من بين أيديهم، كما هو الحال في العام 2016، وكما هو المآل في إعادة التطبيع مع النظام السوري.
منير الربيع- المدن