افتتاح مكتبة ومقهى للنساء حصرًا في بعلبك
بمزيجٍ من الأمل والعناد، تصرّ النسوة في شرق لبنان المنكوب وتحديدًا في محافظة بعلبك – الهرمل، على الإثبات المستمر بأنهن وعلى منوال سائر اللبنانيات، أصحابُ همّة وذائقةٍ فنيّة وإلمامٍ ثقافي. سائرات في موكب الحداثة في منطقة تُركت فريسةً للتخلف وهشاشة التنوع والإهمال منذ عقود. وبمثابرة مستميتة حدّ الدهشة، تجترح هؤلاء النسوة المعجزات في المنطقة نفسها التّي نزفت آلاف الطاقات المثابرة وطردت آلاف الطموحين والنشطين أمثالهن. وبطاقاتهن ومواهبهن الأصيلة وبإمكانيات متواضعة، تواجه هؤلاء النسوة اليوم، مجتمعًا سلّخ عنهن تاريخيًا موجبات الطمأنينة والخصوصية والحقوق البديهية.. ساعيات لخلق مساحة لهن وحدهن من دون إحسان الوصيٍّ أو شيخ العشيرة.
مكتبة ومقهى “مَيْلي” الواقعة في أطراف بعلبك- منطقة دورس تحديدًا، خبرٌ ضجت به وسائل التواصل الاجتماعي ليومين كاملين، بكثير من الترحيب والتشجيع والتساؤلات والمساهمات، وأيضًا التهكم والاستنكار. فهذه المكتبة التّي خُصصت للنساء حصرًا والتّي أعلنت عن استقبالها لأي مساهمة في التبرع بالكتب النسوية أو الثقافية ذات البُعد النسوي، أو أن كتّابها من النسوة. تهدف وفي المرتبة الأولى لخلق مساحة آمنة وخصوصية للنسوة البعلبكيات، فاتحةً أبوابها لهن ولنقاشتهن ولأوقات الاستجمام الخاص بهن، من دون أن يخترق هذه المساحة شبح الذكور من المتحرشين أو حتّى من المنظرين.
مكتبة ومقهى
في حديثها مع “المدن” تُشير طالبة الماجستير في الفلسفة مهاد حيدر (28 سنة، لبنانية) وهي شابة تنحدر من أسرة بقاعية، ولها مساهماتها في البحث والكتابة في المضمار النسويّ، فضلاً عن كونها واحدة من المساهمات في التخطيط والتنفيذ وإطلاق مشروع مكتبة ومقهى “مَيْلي” (ومَيْل/ مَيْلي، هي كلمة شائعة في البقاع الشمالي، لدعوة الأفراد للمرور إلى الزيارة)، عن مشروعهن قائلة: “فكرة المشروع بدأت عند ملاحظتنا أن كل المساحات في لبنان وخصوصاً في البقاع هي للرجال: الشارع، السّاحات، السّوق، الأرصفة، المحلات، البيوت وحتّى بعض المقاهي المخصصة للرجال حصرًا، ومن هنا انبثقت الفكرة التّي تحمل في طياتها انطلاقة أوليّة لخلق مساحات للنساء، للالتقاء وصياغة هوية مكانية خاصة بنا”.
وتُضيف حيدر: “هذه المساحات تتيح للنساء الفرصة للشعور بالراحة والأمان وأن يكن على سجيتهن، بغياب المتحرشين والنظرات المشبوهة. هذه المساحة التّي قد تكون أيضًا مساحة للاستجمام، والموسيقى، والمطالعة، وحتّى شرب المرطبات والمشروبات السّاخنة بأسعارٍ رمزية. وفي أحيانٍ أخرى يُمكن الاستفادة من هذه المساحة للدراسة والعمل وحتّى للتسليّة بعيدًا عن لوم البعض ونظرتهم الدونيّة للنساء. سنعمد لتخصيص جوٍّ يسمح لطرح النقاشات ما بين الزائرات للمكتبة، آمنة وتراعي خصوصية هؤلاء”. هذا وتُعرف مدينة بعلبك لدى سواد سكانها وسكان البلدات المجاورة، بكونها مدينة محرومة من المساحات الثقافية والشبابية فضلاً عن النسائية. من نوادٍ ومسارح ودور سينما وترفيه ومكتبات وصولاً للمراكز الثقافية والمقاهي، التّي تهلهلت وسطا عليها شبح الهرم والشيخوخة، عالقة في حقبة زمنية لا تواكب عصريّة الأجيال الجديدة أو حتّى تؤمن لها أي مساحة للتعبير.
جدوى المكتبة والمقهى في بعلبك
وفي معرض حديثها عن المشاركات في المشروع لفتت حيدر: “المشاركات بالمشروع هن حصرًا من النسوة من مختلف المناطق وتحديدًا من بعلبك والبقاع الشمالي. وقد قررنا إطلاقه في بعلبك، مراعاةً لواقع كون هذه المدينة محرومة من المساحات الخاصة للنسوة من دون أن يشوبها خشية وإزعاج من بعض المتطفلين والمنظرين والمشككين بخياراتهن. ومن جهة أخرى فإنها مفتاح للحديث عن أزمة متناسلة في البقاع وبعلبك، وهي أزمة التهميش السياسي الاقتصادي من قبل السّلطات وغياب البنى التحتيّة والموارد اللازمة لتواجد مثل هذه المساحات”. وأما في سؤالها عن الدعم والإقبال النسائي لهذا المشروع تشرح قائلة: “نعيش أجواء إيجابية، فالدعم جيّد وهناك مساهمات يُشهد لها. عشرات ممن شاركوا منشور الإطلاق رجالاً ونساءً أسهموا في استجرار المساهمات هذه والقبول والاحتضان والتضامن، من المشاركة الافتراضية والمساهمة في التبرع بالكتب التّي تلزم المكتبة”.
والمكتبة هذه هي وليدة مساهمات ذاتية للمشاركات في تصميمها وتنفيذها اللطيف والعصريّ، ضمّت أرائك وكراسٍ ورفوف خشبية في مساحة للعمل في سنتر شريف في محلة دورس – بعلبك. وتلفت مهاد في هذا الإطار لكونهن استغنين عن تمويل مكتبتهن من مصادر رسميّة، فهن يطمحن لخلق مساحة تنأى بنفسها عن متسلقي العمل الاجتماعي بمصالحه الشعبية، خاتمةً حديثها أن “المكتبة والمقهى هذه ليست فقط شقة يتوسطها أرائك وكتب نسويّة، بل هي مشروع تأسيسي لاستعادة المساحات العامة في الفضاء العمومي من سطوة الذكورية الصفيقة. بل هي محاولة لخلق توازن، بفضاء عمومي غير متوازن اطلاقًا. وعليه فإن مثل هذه المقاربة وهذا المشروع هو محاولة لبناء بعض من “العدالة المكانيّة” التّي نفتقدها في قرانا ومدننا. وهذا هو السبب في الاستهداف الحصريّ للنساء. ونتمنى أن ينجح المشروع الذي بإمكانه تشجيع المزيد من النسوة والشابات على تطوير مشاريع مماثلة. حتّى تصبح المساحات الخاصة بالنساء فكرة طبيعية وعادية ومألوفة لدى المجتمع البقاعي.
مما لا شكّ فيه أن هذه المكتبة التّي تنضح بجهود مؤسسيها من النسوة المثابرات والمتمردات على النمطيّة والإقصاء الصفيق والهرمية في سلم الأوليات والامتيازات وحتّى الاحتياجات، هي عينة بسيطة عن جبهة نسائية تفور بديناميكية تغييرية طامحة ودؤوبة. نواة متماسكة وصلبّة في وجه منظومة جعلت الطبيعي والبديهي صعبًا ومستحيلاً. وفي منطقة تسلّخ المتحدرين منها قسرًا عن الطموح والحلم ناهيك بالتغيير.
المدن