دخول أميركي أوضَح على الملف اللبناني: هل الامور اصبحت في خواتيمها؟
البيان الأميركي حول لبنان الذي أصدرته وزارة الخارجية الاميركية الاسبوع الماضي لم تكن مهمته فقط توجيه رسالة قوية الى المبادرة الفرنسية حيال الملف الرئاسي اللبناني، بل كان يحمل ايضاً اشارة تُنبئ بالبدء باعتماد حركة ديبلوماسية أميركية أوضح في اتجاه لبنان، بعد انكفاءٍ بدأ منذ توقيع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. وهو ما يعني بالتالي انّ هذه الحركة ستتظَهّر أكثر فأكثر على شاشة الاحداث والتطورات اللبنانية، ولو انّ ذلك لن يعني أنّ الحلول الرئاسية باتت في متناول اليد.
والأهم أنّ هذه الحركة الاميركية ستكون بالتفاهم والتنسيق مع السعودية وايضاً مع قطر التي أنجزَ وفدها مهمته الرئاسية الثانية، قبل ان يعود في جولة ثالثة على الارجح بعد انتهاء أعمال القمة العربية، والتي ستخصّص لبنان بحَيّز لا بأس به، واحتمال حصول قمة سعودية ـ سورية وفق ما يتردد. لكن قبل ولوج الملف الرئاسي اللبناني، لا بد من قراءة متأنية للاوضاع الخارجية والاقليمية، خصوصاً انّ انسداد الأفق داخلياً يدفع للتعويل على انقاذ خارجي له شروطه وتعقيداته المختلفة. ومنذ ايام زار مستشار الامن القومي جيك سوليغان السعودية على رأس وفد تمّ اختياره بعناية، حيث توصّل الى تفاهمات مهمة مع القيادة السعودية وذات بُعد استراتيجي وتضمنت الربط ما بين الشرق الاوسط والهند.
وفي محاضرة ألقاها سوليفان في معهد واشنطن للشرق الاوسط وصف التفاهمات مع السعودية بالاستراتيجية والمبنية على الواقعية والبرغماتية، والتي ترتكز على خمس مبادئ هي: الشراكة والديبلوماسية والردع وخفض التصعيد والتكامل، أضاف المسؤول الاميركي الرفيع انّ هذا ما يرتكِز عليه مفهوم التعاون لحقبة جديدة بين الهند والخليج والشرق الاوسط اضافة الى واشنطن، وقد أراد سوليفان خلال محادثاته في السعودية التأكيد على التزام بلاده بنقاط عدة أوحَى بأنها ثوابت اميركية ومن ضمنها التزام أميركي نهائي بالشرق الاوسط. ووفق أوساط ديبلوماسية معنية، فإنّ محادثات سوليفان في الرياض تناولت ملفات اليمن وايران وسوريا والعراق والملف الاسرائيلي ـ الفلسطيني وانّ الوضع اللبناني وَردَ من خلال أكثر من ملف.
ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة فإنّ واشنطن ومعها الرياض تراقبان بكثير من الدقة وجود توجهات معارضة للاتفاق الايراني ـ السعودي لدى بعض مسؤولي الحرس الثوري، في مقابل تأييد مرشد الثورة خامنئي له. وهو ما يفسّر إيلاء خامنئي بعض المهمات للامين العام للمجلس الاعلى للامن القومي علي شمخاني. ووفق تفسيرات هذه الاوساط الديبلوماسية أن خامنئي يريد تأمين استمرارية النظام القائم واعادة تنشيط العجلة الاقتصادية لاستمالة شريحة الشباب، والتي شكّلت عصب التحركات الشعبية خلال الاشهر الماضية. أضِف الى ذلك انّ واشنطن خَفّفت من اهتمامها بالملف النووي على اساس انّ ايران لن تكون قادرة على استعمال القنبلة النووية لا في الخليج بعد الاتفاقات التي حصلت ولا في اسرائيل خشية أذية القدس او المناطق الفلسطينية او حتى جنوب لبنان. وتبقى التفاهمات والتسويات في العراق قادرة على دفع الحركة الاقتصادية الايرانية.
امّا في الملف السوري فإنّ اعتراض واشنطن على التطبيع العربي مع سوريا كان شكلياً اكثر منه عملياً، وهو لم يحمل مضامين فعلية ولا برنامج مواجهة لإجهاض الخطوة. وهو ما يعني إبقاء السيف مُصلتاً لإتمام كافة البنود المطلوبة. وفي اختصار إنّ الموقف الاميركي هو اقرب الى الضوء البرتقالي منه الى الاحمر.
وخلال الاجتماع الذي عقد في الاردن على مستوى وزراء الخارجية حول الملف السوري، لم تكن الامور سالكة بنحوٍ سلس وبالكامل، ذلك انّ دمشق ركزت بقوة على جانب المساعدات المالية، فعلى سبيل المثال نقل عن وزير خارجية سوريا فيصل المقداد قوله خلال اجتماع الاردن أنّ بلاده تعتمد على الضغط العربي على الاميركيين لتخفيف العقوبات. كذلك ربط عودة اللاجئين السوريين بالحصول على التمويل المطلوب لإعادة اعمار سوريا. لكنّ النقطة التي تحركت بنحو أسرع، كانت تلك المتعلقة بتهريب الكابتاغون، والذي اعتبر وزير خارجية الاردن انها ليست مسألة عصابات بل جماعات تتحصّن داخل الدولة. ولكن الملف سلك طريقه بعد التزام السعودية بمساعدات في المجال الزراعي بقيمة 4 مليارات دولار.
ولم يتأخر التنفيذ مع الغارة الجوية الاردنية على أهم المهربين. وكان واضحاً انّ الغارة حصلت بتنسيق أمني أردني ـ سوري، وانّ ثمة مساراً بدأ وهو يطاول جوانب عدة، ومنها الحدود السورية ـ اللبنانية. واستطراداً، فإنّ للملفين الايراني والسوري مستلزمات على مستوى الساحة اللبنانية، وبالتالي لا بد من محاكاة الازمة الرئاسية الحاصلة من خلال هذين الملفين.
وخلال زيارة وزير الخارجية الايراني حسين امير عبداللهيان لبنان، وجّه رسائل ناعمة الى العواصم المهتمة. ومن هذه الرسائل الدعوات التي وجّهت الى النواب من مختلف الاتجاهات، وايضاً عدم تورّطه في اي تسمية رئاسية. وكذلك دعوته الى عدم إطالة أمد الفراغ الرئاسي. وبالتزامن، تلقّت مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول ملف الرئاسة اللبنانية ضربة واضحة من واشنطن وتملّصاً ناعماً من الرياض. والواضح ان باريس باشَرت بانعطافة واضحة تجاه لبنان. ونُقل في هذا المجال عن ايمانويل بون، كبير مستشاري الرئيس الفرنسي، قوله: «لقد أخطأنا في تقديرنا للموقفين الاميركي والسعودي».
والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي يستعد لمواجهة معارضيه الذين سيسعون لاستثمار نتائج خطوته في لبنان، باشَر في إعادة ترتيب فريق عمله، حيث سجّل حضور أقوى لرئيس المخابرات برنارد ايميه والمعروف بمعارضته للمبادرة التي حصلت، على حساب باتريك دوريل، والذي كان مكلّفاً تسويق المبادرة كونه أحد معاوني بون.
وبخلاف اللغط القائم حول حقيقة الموقف السعودي، فإنّ مؤشرين اثنين قادرَين على تفسير حقيقة الموقف السعودي. الاول يتعلق بحلفاء السعودية في لبنان وفي مقدمهم وليد جنبلاط وسمير جعجع، والثاني جولة الوفد القطري الذي قال رئيسه انها تحصل «بالتفاهم الكامل» مع السعودية، وانها هدفت الى ملامسة جوهر العقد الموجودة حيال الاستحقاق الرئاسي والاسماء المطروحة وركّزت خصوصاً على ضمان استمرار الاستقرار اللبناني واهمية الجيش اللبناني في هذا المضمار وضرورة مساعدته في مهمته.
واللافت انّ الوفد القطري، والذي قابل مختلف الافرقاء على تنوعهم ومن ضمنهم رئيس تيار «المردة»سليمان فرنجية، التقى بـ»حزب الله» ثلاث مرات، وهو ما يعني من جهة ان الحلقة الاهم هي في تدوير زوايا الحزب، ومن جهة ثانية أن الطرفين يريدان التواصل والتفاهم والنقاش، وان هناك افكاراً يجري التناقش حولها.
وغالب الظن انّ الوفد القطري، والذي سيعود في جولة ثالثة بعد القمة العربية، إنما يتحرك بروحية سعودية ـ اميركية ويترصّد التطورات الاقليمية المتلاحقة. فالغارة الاردنية على «ملك» الكابتاغون جنوب سوريا لم تكن الاشارة الوحيدة. مقابل ذلك حصلت عمليات قتل بالجملة طاوَلت تجار مخدرات في جنوب سوريا، وفي المناسبة فإن بعض هؤلاء كان يساعد على تهريب السلاح الى الضفة الغربية لحماية عمله في تهريب المخدرات. والتصفيات والاغتيالات تمهّد في العادة للترتيبات السياسية. كذلك فإنّ المجموعات الموالية لإيران أنزَلت الاعلام الايرانية بطلب من السلطات السورية وفق ما نقلت وسائل اعلام سعودية.
أضف الى ذلك تقليص هامش التحرك للتنظيمات في منطقة دمشق، وفي الوقت نفسه اعادة نشر الجيش السوري بنحوٍ مُحكم عند الحدود مع لبنان.
ووفق هذا التوقيت الاقليمي، عمدت اسرائيل الى استهدافٍ نوعي عبر اغتيال ثلاثة اعمدة من الركائز الميدانية لحركة «الجهاد الاسلامي» وهو التنظيم المَحسوب كلياً على ايران. وهؤلاء القادة يتولّون مسؤوليات عسكرية وعملانية حساسة. واللافت ان حركة «حماس» لم تظهر ردة فعل فورية وكبيرة، اضافة الى انّ اسرائيل كانت مطمئنة في الوقت نفسه الى أن صواريخ وحدة المسار لن تنطلق كما حصل قبل اسابيع معدودة.
وفي لبنان تطوّر موقف المؤسسات الدولية حيال النازحين السوريين في اتجاه الموافقة على تسليم «الداتا» الى السلطات اللبنانية والموافقة على استكمال العودة الطوعية للراغبين منهم، ولكن بعد إعادة فرز ملفاتهم والتدقيق في أوضاعهم مع تسجيل خفض في الموازنة المخصصة لهم لدى الدول الاوروبية.
كل تلك المؤشرات قد لا تكون كافية للبناء عليها والقول انّ الامور اصبحت في خواتيمها وانّ باب التسوية في لبنان اصبح على قاب قوسين أو أدنى، لكنها تؤشّر الى انّ ثمة قطاراً اقليمياً انطَلق، وانّ بيروت ستكون احدى محطاته، وانّ الجدل الحاصل في لبنان الآن هو لملء الوقت الضائع لا اكثر.
جوني منيّر- الجمهورية