فريد الأطرش والربيع: أجمل فصول الموسيقى!
يُعتبر فريد الأطرش الموسيقار العربي الوحيد الذي قام بتصوير فصول السنة موسيقياً، بعد الموسيقار الإيطالي أنطونيو فيفالدي، الذي ألّف «الفصول الأربعة» سنة 1725 في عصر الباروك، وكان تعبير فيفالدي موسيقياً بحتاً، إذ وضع مقطوعات لكل من الصيف والشتاء والربيع والخريف، في قالب الكونشرتو وتحديداً كونشرتو الكمان، تُشكّل هذه المقطوعات في مجموعها العمل بأكمله. أما فريد الأطرش في «أوبريت الربيع» فكانت موسيقاه تلحيناً لشعر غنائي في الأساس، بالإضافة إلى بعض الاستطرادات اللحنية، في الفواصل والمقاطع التي تخلو من الغناء، وكان تعبيره الموسيقي مرتبطاً بشعور عاطفي خاص، داخل إطار موضوع الغناء. كما أن فريد الأطرش لم يعبر بموسيقاه فقط، وإنما عبر أيضاً بصوته الساحر المقيم في النفوس، الذي يخلب الأسماع ويأسر القلوب، وكذلك بأدائه التمثيلي أثناء الغناء في أجزاء الأوبريت المختلفة، والحركات الجسدية، وبعض الخطوات الكلاسيكية الخفيفة، عندما يشترك في الرقص مع سامية جمال.
ظهر «أوبريت الربيع» إلى الوجود سنة 1949 ضمن أغاني واستعراضات فيلم «عفريتة هانم» الذي ألّف قصته أبو السعود الإبياري وأخرجه هنري بركات، وكتب كلمات أغانيه كل من، أحمد رامي ويوسف بدروس وفتحي قورة، ومأمون الشناوي صاحب الربيع، الذي أبدع تلك القصيدة الغنائية باللهجة العامية، وهو الشاعر الذي كان ينظم بعض أشعاره باللغة العربية الفصحى أيضاً، ومنها قوله: «ذهب الماضي.. فمن يمحوه؟ من؟ إنه سطر في كتب الزمن» وقوله:
«في سبيل الحب ما ألقى وما سوف ألاقي.. ولأجل الحب هذا الدمع يجري في المآقي». حقق مأمون الشناوي من خلال الربيع، إبداعاً جمالياً فريداً في صياغة الشعر الغنائي العامي، بما يحمله من معانٍ وأخيلة وأفكار، وصور شعرية رائعة، وكلمات تفيض بمشاعر الحب ومعاناة الغرام، وعذابات العاشق وتبدل أحواله من حال إلى حال، ومن فصل إلى فصل، ثم أسلم مأمون الشناوي كلماته الجميلة إلى فريد الأطرش، الذي اختار أن يضمها إلى مجموعة أغاني فيلم «عفريتة هانم».
أغنية أم أوبريت؟
يُعرف الربيع بأنه أوبريت، وإن اختلف البعض على هذا الوصف، لكنه الوصف الذي شاع في النهاية، حتى إن المرء يجد تضارباً حول توصيف هذه الأغنية في الفيلم نفسه، فقد كُتب على تيتر الفيلم «سكيتش الربيع» وليس أوبريت الربيع، بينما أضيفت كلمة أوبريت أمام «سلطان الجن» وهو من الأعمال الغنائية في الفيلم، ورغم ذلك نجد فريد الأطرش أو المطرب عصفور، تلك الشخصية التي كان يجسدها، يتحدث عن الربيع كأوبريت داخل الفيلم. بالطبع لم يكن ممكناً اعتبار الربيع أغنية كبقية أغنيات الفيلم القصيرة، التي لا يسبق عنوانها أي توصيف أو تعريف على التيتر، لأن الربيع أطول من ناحية المدة الزمنية، ولأنه لحن متنوع على مستوى الغناء واللوحات الموسيقية المختلفة، صحيح أنه يفتقد إلى الحوار والعقدة الدرامية، إلا أنه يحتوي على بعض الخصائص الأخرى التي تميز فن الأوبريت، وقد اعتنى فريد الأطرش بهذا الفن أيما عناية، وأغدق عليه من موهبته العظيمة، وكان له الفضل في إنقاذ فن الأوبريت من النسيان، وتأجيل موته إلى حين، كما كان له السبق والتفرد في الانتقال بهذا الفن، من المسرح إلى السينما في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، فبعد أن فقدت مصر سيد درويش، أهدى إليها القدر نفحة سماوية أخرى، ونغمة بهيّة من نغم الكون، وبعد أن كان الجمهور يذهب إلى المسرح ليشاهد الأوبريت، ويستمتع بالموسيقى والغناء والتمثيل، بات يذهب إلى دور السينما ليشاهد الأوبريت في أفلام فريد الأطرش، الموسيقار الشاب آنذاك، الذي نفّذ هذه الفكرة الجريئة والعصرية تماماً في ذلك الوقت. فقد غيّر فريد الأطرش من شكل الأوبريت ليلائم السينما، واختصره زمنياً بطبيعة الحال، ليكون أطول أوبريت قدمه وهو «انتصار الشباب» سنة 1941 لا يزيد عن 24 دقيقة، بينما كان الأوبريت لدى سيد درويش على سبيل المثال تزيد مدته على الساعتين.
وكان فن الأوبريت يمثل فرصة لإظهار بعض ملامح نبوغ هذا الموسيقار الشاب، التي هي أكبر من أن تتجلى في الأغنيات القصيرة وحسب، ومن خلال هذا النوع الفني كان فريد الأطرش، يستطيع أن يطلق مهاراته في التعبير الموسيقي الدرامي، وتنوع الميلودي والإيقاع، واستخدام أكبر عدد من الآلات الموسيقية المألوفة وغير المألوفة، وإعداد الأوركستراسيون الهائل، والإبداع في الغناء وإظهار مهارات التمثيل أثناء الغناء، والأداء المسرحي شبه الأوبرالي، والتلحين للصوت الفردي والأصوات الجماعية، بالإضافة إلى الإلقاء الملحّن الذي يعد من أهم السمات المميزة لفن الأوبريت، وكذلك أتاح فن الأوبريت لفريد الأطرش الغناء في ألوان متعددة، كالبلدي والفلاحي والصعيدي من الألوان المصرية، وبعض اللهجات العربية، كما في أوبريت «بساط الريح» للشاعر العبقري بيرم التونسي، كما أتاح له إظهار ثقافته الموسيقية الأصيلة، ومدى انفتاحه على الموسيقى الغربية الكلاسيكية، ومن الأمثلة على ذلك أوبريت «الشرق والغرب».
وبشكل عام قدّم فريد الأطرش للسينما المصرية والعربية، الفيلم الغنائي الاستعراضي الأكثر رقياً وكمالاً، واستيفاءً للشروط الفنية، بعد محاولات الموسيقار محمد عبد الوهاب الرائدة مع المخرج محمد كريم، التي مهّدت الطريق وفتحت الأفق لهذا المجال في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وإن كان ينقصها الجانب الاستعراضي المبهر، الذي نجده على أروع ما يكون في أفلام فريد الأطرش، وليس الجانب الاستعراضي فقط، وإنما غنائية الفيلم نفسه، نجدها عضوية وأصيلة في أفلام فريد الأطرش أكثر من غيرها. وكانت حقبة الأربعينيات تمثل الزمن الذهبي لهذه الأفلام، التي توقف فريد الأطرش عن إنتاجها في ما بعد، وركز على إنتاج الأفلام الغنائية الخالية من الاستعراض، وفي حوار تلفزيوني معه أثناء إقامته في لبنان، سأله المذيع اللبناني رياض شرارة، عن سبب اختفاء هذا النوع من الأفلام، فقال فريد الأطرش ضاحكاً: «لما كنت بعمل أفلام استعراضية، كنت ملك الأفلام، كان فيه ملكية، دلوقتي جمهورية، فا شيلنا اللقب حتى، ما بقيناش ملوك».
عندما يعود الربيع
لـ «أوبريت الربيع» مكانته الخاصة وسط أعمال فريد الأطرش، فهو عمل يعتز به الجمهور، ويذكره الموسيقار نفسه ضمن إبداعاته الكبرى، والربيع قطعة فنية رفيعة، وفريدة من فرائد صاحب تلك الموهبة العظيمة نادرة الوجود. وقد استطاع أوبريت الربيع أن يحيا خارج الفيلم، بل أن يخلد ما دامت الحياة وما دام الفن، وكثيراً ما غنى فريد الأطرش الربيع في حفلاته، وكان يضيف إلى جماله وسحره، جمال وسحر عزفه المنفرد على العود وتقاسيمه المذهلة، قبل البدء في الغناء وأثناء لحظات الطرب أيضاً، فتلك الآلة الموسيقية العربية الخالصة، كانت آلة فريد الأطرش، صحيح أنه كان يعتمد على البيانو والكثير من الآلات الموسيقية الأخرى، إلا أن العود يكاد يكون مرادفاً لاسم فريد الأطرش. في فيض من الجمال، أبدع فريد الأطرش «أوبريت الربيع» وهو لحن يبدأ رائعاً ويستمر مبهراً وينتهي رائعاً، وكما تتعاقب فصول السنة وتتغير، تتعاقب ألحان الأوبريت، من لحن الربيع إلى لحن الصيف، إلى لحن الخريف إلى لحن الشتاء، ثم لحن الربيع مرة أخرى، فتكفهر الموسيقى وتشرق وتجمد وتنساب، إذ جمع فريد الأطرش في موسيقاه، بين التعبير عن مشاعر العاشق الذي يعاني الهجر والحرمان، والتعبير عن كل فصل من فصول السنة، وتقلّب العاشق وأحواله بين هذه الفصول. اعتمد فريد الأطرش على ثيمة رئيسية، تُعد من أروع الثيمات الموسيقية التي يمكن سماعها، هي ثيمة الربيع التي يبدأ بها الأوبريت، ثم تصاحب المطلع القائل: «آدي الربيع عاد من تاني والبدر هلت أنواره.. وفين حبيبي اللي رماني من جنة الحب لناره» وتتكرر عدة مرات خلال الأغنية، ويمثل هذا المطلع بالإضافة إلى المقطع الذي يليه الجزء الخاص بالربيع، وفيه يغني فريد الأطرش بصوت مشرق مليء بالحيوية والأمل، رغم أنه يبحث عن حب ضاع منه وحبيب هجره، لكنه يود أن يعود هذا الحب مع عودة الربيع، وازدهار الطبيعة والحياة، ويتذكر أوقات السعادة وتفاصيلها الجميلة، والمشاعر التي كانت تغمره هو والحبيب.
بعد أن ينتهي فريد الأطرش من غناء الثيمة الرئيسية بأسلوب انسيابي متصل، كما هو اللحن أيضاً، يبدأ في غناء المقطع التالي من جزء الربيع، ويتجه الأداء الصوتي نحو المزيد من التطريب والتقسيم وتقطيع الجمل، وتكرار بعض الكلمات، والتراوح بين السرعة والبطء في غناء بعض العبارات، مع البراعة الفائقة في الانتقال من الأداء السريع إلى البطيء والعكس، ثم الالتحام بالثيمة الرئيسية بشكل طبيعي ناعم، يخلو من أي انتقالات حادة عنيفة. بعد ذلك يأتي لحن الصيف ويكون الغناء بطيئاً في البداية، وتتخذ الموسيقى لوناً داكناً، يعبر عن الكلمات الموحية بتمكن القلق من نفس العاشق، وغلبة الحزن وسيطرة الألم على روحه، فهو لا يستطيع أن يبادل الصيف ضحكه ومرحه، ويتذكر عهود الحب التي كانت في فصول الصيف السابقة، لكن الذكرى هنا تكون مؤلمة. لا يسرع اللحن سوى في المنتصف تقريباً من خلال جملة واحدة، ثم يعود إلى إيقاعه البطيء من جديد. يلي هذا اللحن لحن الخريف الرائع، الذي يغنيه فريد الأطرش بشجن عذب خلاّب، يصف عذاب الحب، لكن العذاب هنا يبدو كجزء من هذا الحب، ويبدو تألم المحب وظلم المحبوب كنوع من أنواع الاتصال بينهما.
يعبر فريد الأطرش بصوته الساحر وموسيقاه البديعة عن حال من أحوال العاشق الولهان، الذي يعترف بعدم قدرته على النسيان والتخلي، وقد لحن فريد الأطرش هذا المقطع بتقابل مدهش بين شطري كل بيت شعري، إذ يختلف كل شطر في وقعه وطريقه غنائه، ومدّ بعض الكلمات والضغط عليها، أو الإسراع في نطقها بطريقة متلاحقة، كما أدخل الأصوات الجماعية معه في هذا الجزء، لتردد من خلفه بعض العبارات، وتهمهم ببعض الأصوات المنغمة. بعد ذلك يأتي لحن الشتاء، وهو لحن طويل إلى حد ما، جعله فريد الأطرش متنوعاً لا يسير على وتيرة واحدة، إذ يبدأ باللقاء الملحن، الذي يليه فاصل موسيقي من اللون البلدي المصري، ثم الموّال ومقطع غنائي آخر. هنا في هذا الجزء يمتع فريد السامع بأساليب مختلفة من الغناء والطرب الشرقي الذي لا مثيل له، وجاء لحن الشتاء على تنوعه، وقد غلب عليه طابع الحيوية والأمل رغم الموّال الحزين، لكن العاشق يحلم بعودة طيف الحب مع عودة الربيع، وفي ختام الأغنية نستمع إلى ثيمة الربيع المغناة من جديد، لتتصل بداية الأغنية بنهايتها في شكل دائري مستمر.
مع كل عودة لفصل الربيع يتجدد شباب هذه الأغنية، ويتبدى جمالها في أزهى صورة، ونتنسم عبق ألحانها البديعة، والرقي الذي ينبعث من موسيقى فريد الأطرش وغنائه كما كان ينبعث من ذاته، فهو أمير جلس على عرش الفن. يأتي إلينا فريد الأطرش في كل عام بالطلاقة والإشراق والنور والدفء، ورغم ذلك لا تعد أغنية الربيع من أغاني المناسبات، فهي أغنية عاطفية خالدة تُسمع في كل وقت وحين، لكنها في مصر ارتبطت بعيد شم النسيم، أقدم أعيادنا نحن المصريين، الذي لا نزال نحتفل به ونشترك في بعض طقوسه مع أجدادنا الفراعنة، التي ورثناها عنهم واحتفظنا بها، وأحياناً يتساءل المرء، كيف كنا نحتفل بشم النسيم قبل أن يبدع فريد أغنيته؟ وقد صارت من أهم طقوس هذا العيد. ففي يوم شم النسيم يتردد صوت فريد الأطرش وموسيقى أغنية الربيع في كل مكان، تملأ الهواء نغمات فريد، وتنتثر نبرات صوته كالزهور. وفي زمن فريد الأطرش، كانت حفلات شم النسيم من الحفلات المهمة للغاية، وكم كان جميلاً أن يذهب المحظوظون الذين عاصروا وجوده في مصر، لحضور تلك الحفلات وسماع أغنية الربيع في يوم الاحتفاء بالطبيعة وتقديسها.
في أوبريت الربيع، الذي هو عمل واحد فقط، من أعمال فريد الأطرش الهائلة والعظيمة، نجد الكثير من جمال موسيقاه، بقيمتها الكبيرة وميزاتها الفنية الرفيعة. وتنوع الميلودي والإيقاع، وقفلات اللحن والغناء، وتعدد الأساليب الطربية، وتلوين الصوت ودرجات الإرخاء والحدة، ومرونة الحنجرة وسحر النبرات، وصفاء اللفظ وسلامة الأداء. والمهارة في صوغ اللحن بشكل عام وتراكيبه النغمية. في عمل واحد فقط من أعمال فريد الأطرش، نرى كيف كان يرتقي بموسيقاه وغنائه، فيرفع مقياس الثقافة ويُعلي ميزان الحضارة، ويذهب إلى آفاق بعيدة من الجمال لا يذهب إليها غيره.
القدس العربي