ألحان بالذكاء الاصطناعي ومطربون افتراضيون… هل ننعي الغناء؟

أرخت العولمة بظلالها على الثقافة (أغانٍ وأفلام وأدب وعروض أزياء وعادات ولغات وغير ذلك)، وأحدثت تغييراً في الأغنية العربية على مستوى الأسلوب والموسيقى والكلمات، بعد أن حاولت التأقلم مع هذه التغييرات، مما أدى إلى فقدانها الهوية في بعض الأحيان. فالعولمة حولت العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة وسمحت بالتبادل الثقافي وتجانس ثقافات العالم مع بعضها، إلا أنها في المقابل تسببت في تلاشي خصوصية كل بلد.

وإذا كان هناك رأي يعتبر أن تأثير العولمة على الأغنية العربية إيجابي ويسهم في تحديثها وسهولة انتشارها حول العالم، فهناك معتقد آخر يؤكد أن عولمة الموسيقى ستؤدي إلى طمس ملامح وخصائص الموسيقى العربية، من منطلق أن لكل ثقافة تراثها الموسيقي الذي يمثل هويتها وقيمها ومعتقداتها. ويبقى السؤال المطروح ما مستقبل الأغنية العربية بين الحداثة وبين الخوف من فقدان الهوية في زمن العولمة، وهل سينجح صناعها بالاستفادة من الانفتاح الثقافي وتسخيره لخدمتها؟

اختصار الوقت

الشاعر اللبناني علي المولى الذي تتميز أغانيه بالواقعية يشيد بأهمية العولمة، ويعتبر أنها أسهمت بالمزج بين الحضارات والأنواع الموسيقية المختلفة، ثم يضيف “العولمة علمتنا الاختصار، فبعد أن كانت مدة الأغنية أربع دقائق يوجد اليوم أغانٍ لا تتعدى مدتها الدقيقتين”.

وبحسب المولى فإن العولمة أثرت في نوع المواضيع التي تطرحها الأغنية العربية، فأصبحت تتناول مواضيع اجتماعية وذاتية، وتعطي مساحة أكبر للجرأة والصراحة في الطرح، ولكنه يحذر في الوقت نفسه من أنها “أسهمت من ناحية أخرى في طمس الهوية المشرقية في معظم الأغاني من خلال اعتماد الموسيقى والإيقاعات الغربية، بناء على قاعدة إرضاء الجمهور والذوق المعاصر على حساب الأصالة والفن الحق”.

كلمات وألحان عصرية

أما الملحن المصري مدين (محمد أحمد مدين)، الذي غنى ألحانه معظم نجوم العالم العربي، فيرى أن “الكلام واللحن يعبران عن العصر، وأن شكلهما هو الذي يتغير، وهناك أعمال قديمة لكبار الفنانين أمثال عبدالحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب أعيد تقديمها بطريقة جديدة بعد إعادة توزيعها (ريميكس)، وحققت نجاحاً كبيراً في عصرنا”.

يقف مدين هنا لتوضيح قصده بقوله “أي إن الكلام يحدد العصر الذي طرحت فيه الأغنية واللحن يحدد موضة الموسيقى السائدة… حالياً هناك كثير من الأغاني تتميز بطابعها الشرقي وتحقق النجاح مع أننا في عصر العولمة الذي يفترض أن يسمع فيه معظم الناس الأعمال الغربية مقابل قلة يسمعون أغاني (السلطنة)، وهذا يعني أنها لم تتمكن من طمس هوية الأغنية العربية، وإن كانت قد أحدثت تغييراً في الموضة الموسيقية وبعض الأعمال التي لم تنجح سابقاً ما لبثت أن حققت النجاح بعد تجديدها.

يعود الملحن المصري فيؤكد أن “إيقاع الأغنية العربية تغير مع تغير الناس الذين أصبحوا اليوم أكثر صخباً بعد أن كانوا أكثر هدوءاً، ولم يكن يوجد بين أياديهم هواتف ذكية تسمح لهم بالقيام بأشياء كثيرة خلال ساعة واحدة. أما بالنسبة إلى الكلام فأصبح اليوم أكثر جرأة لأن لغة العصر جريئة جداً. العولمة لا يمكن أن تغير فطرة الإنسان الأساسية، ومع أنها جعلت الناس يميلون إلى الأغاني القصيرة ذات الإيقاع السريع والكلام الجريء، لكن الجملة الجميلة لا بد أن تفرض نفسها حتى لو تأخرت قليلاً، وأنا لا أشعر بالخوف على الأغنية العربية لأن العرب بمختلف لهجاتهم يدعمون الأغنية الجميلة مهما كانت جنسيتها”.

طفرات موسيقية

على رغم مطالبته بالمحافظة عليها، لا يشعر الناقد الموسيقي المصري محمود فوزي السيد بالقلق على هوية الأغنية العربية، ملقياً بمسؤولية صونها على صناعها في كل دولة عربية. ويقول “يوجد في مصر أشكال موسيقية مختلفة من بينها اللون المصري الأفريقي الذي يقدمه محمد منير، وهو لا يمكن أن يتأثر بالعولمة إذا حافظنا على هويته الموسيقية، والأمر نفسه ينطبق على الرأي الجزائري، والتراثي الأصيل الذي يقدم في بلاد الشام”.

ويضيف “على رغم من اجتياح الأشكال الموسيقية الغربية المختلفة للعالم، ومن بينها البوب والديسكو، لكنها لم تؤثر في هويتنا الثقافية، بدليل أن غناء القصائد والغناء باللهجة الخليجية والأداء (الريتم) المقسوم الشرقي المصري الأصيل، والجبلي اللبناني، لا تزال جميعها موجودة ومستمرة، ولا يلبث أن يعود المطرب العربي إلى غنائها حتى لو غنى أي لون غربي آخر”.

وعن إمكانية تأثر الأجيال الجديدة بالعولمة التي يمكن أن تتمدد بشكل تدرجي، يوضح السيد “الأجيال تتأثر دائماً بالطفرات الموسيقية، وهذا ما حصل مع الأجيال القديمة، وسيحصل مع الأجيال اللاحقة. مايكل جاكسون وإنريكيه إيغليزياس وريكي مارتن كان لهم تأثير كبير في الأجيال المتعاقبة في الوطن العربي، ولكنهم لم يتمكنوا من طمس هوية الأغنية العربية، والتحدي الحقيقي يتمثل في مدى قدرتنا كعرب على المواجهة والاستمرار أم لا”.

ويضرب مثالاً “في مصر، هناك تأثير كبير لموجة (الراب والتراب) في جيل المراهقين والشباب وهم يقبلون عليه أكثر من إقبالهم على الأغاني النمطية، لذا يفترض بالمطربين الكبار أن يعرفوا كيف يستقطبون الجيل الجديد المتحرر في طريقة كلامه وأفكاره لأنه يريد أغاني جريئة تعبر عنه ولا يتقبل الشكل النمطي الكلاسيكي، ونحن طالما استفدنا من الطفرات الموسيقية التي كانت تأتي من الخارج وعندما سيطرت الموسيقية اللاتينية مثلاً على العالم عرفنا كيف نوظفها وننجح فيها كما عرفنا كيف نتعامل مع موسيقى (البوب) التي اكتسحت على العالم”.

كما يشير إلى أن “الخوف على الأغنية العربية في زمن العولمة محمود وليس مرعباً، ولكن التحديات الموجودة فينا أصبحت أكبر لأن الأجيال الجديدة في حاجة إلى طريقة في الكلام وموسيقى مختلفة عن تلك التي تربينا عليها”.

أعمال مهجنة

لكن الناقد الفني اللبناني جمال فياض له رأي مختلف تماماً، ويعتبر أن التقنيات الحديثة أفقدت الأغنية هويتها، إذ يقول “بدأ أخيراً استخدام الذكاء الاصطناعي في تجربة فنية جديدة تمكننا من سماع أي أغنية لأي مطرب بصوت مطرب آخر، وأنا شخصياً سمعت أغنية للفنانة إليسا بصوت الفنانة أصالة وكأنها هي صاحبة الأغنية الأصلية، كما يمكن استخدامه أيضاً لسماع أغنية قديمة بتوزيع حديث أو لتعريب الأغاني الإنجليزية و(تغريب) الأغاني العربية وهو يفعل ذلك خلال ثوانٍ معدودة”.

ويؤكد “بالنسبة إلى الأغاني القديمة الموجودة في الأرشيف يمكن الاستماع إليها وبها، أما الأعمال الحديثة فهي صناعة عشوائية مهجنة تشبه النعجة دولي لأن الإنتاج الفني لم يعد يعتمد على الإبداع، بل على الاستنساخ العلمي والتقني. وبفضل التكنولوجيا أصبح بالإمكان تسجيل الأغنية ونشرها على (يوتيوب) أو (تيك توك)، خلال 15 دقيقة فقط لتصبح بمتناول كل الناس خلال ثوانٍ معدودة”.

وعما إذا كان مسموحاً من الناحية القانونية باستخدام الذكاء الصناعي لسماع أغنية بصوت فنانة ليست هي صاحبتها الأصلية، يجيب “هو ليس مسموحاً، ويمكن بسهولة إيقاف الأغنية على (يوتيوب)، ولكن لا يمكن منع الناس من تداولها عبر (واتساب) والتسجيلات الخاصة مثلاً”.

ويحذر من أن “الأغنية العربية أصبحت هجينة وفقدت خصوصيتها، فاليوم نسمع أغنية خليجية بكلام كويتي أو سعودي أو إماراتي وبلحن مصري، ولم يعد يوجد فيها إيقاعات كالتي كنا نسمعها في أعمال طلال المداح أو أبو بكر سالم… أغاني حسين الجسمي مثلاً كلامها خليجي وتوزيعها الموسيقي مصري أو لبناني، ووحدها الأغنية السودانية نجحت في المحافظة على النغمة الخماسية ويمكن أن نحدد هويتها عند سماعها”.

لكنه يرى أن “الإيجابية الوحيدة للعولمة تكمن في أن البقاء والاستمرارية لمن يملك الموهبة فقط، وما ينطبق على مجال الغناء ينطبق على المجالات الأخرى كالشعر والأدب والنحت والرسم وحتى التمثيل، حيث تحولت الدراما إلى خلطة من كل الجنسيات مما أفقد الأعمال الدرامية الخصوصية إلا نادراً وأتوقع زوال هذه الندرة مع الوقت في كل المجالات الفنية”.

مطربون وهميون

وعما إذا كان يفترض بنا رثاء الأغنية العربية، يرد جمال فياض “ليس الأغنية العربية فقط، بل الأجنبية بجميع لغاتها لأنه لم يعد هناك أغنية محلية كلاماً ولحناً، بل هي تحولت إلى خليط. وقد كنا نقول إن العالم قرية كونية صغيرة، ولكن التطور التكنولوجي حوله إلى غرفة صغيرة وأصبح بالكامل بين أيدينا من خلال الهاتف الذكي”.

ويضيف “الفوضى انتشرت ولا مجال للسيطرة عندما يتعلق الأمر بالأعمال الغنائية الجديدة، ومع الوقت يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوم بالتلحين والكتابة والغناء وحتى المطرب لا يعود ضرورياً لأنه يمكن أن يحول الناس إلى مطربين إذا طلبوا منه ذلك”.

ويختتم سلسلة تحذيراته بالقول “مع الوقت يمكن أن تنتشر تقنية الهولوغرام بشكل أوسع وأكبر ولا شيء يمنع من اختراع مطرب افتراضي أو وهمي يؤدي على المسرح الأغاني التي صنعها الذكاء الاصطناعي كتابة ولحناً. الإبداع البشري يتراجع كثيراً لمصلحة التكنولوجيا والفنان الذكي هو الذي يعرف كيف يستفيد من التكنولوجيا لمصلحته”.

اندبندنت

مقالات ذات صلة