ما مدى خطورة شعورنا بالوحدة؟
يبدو أن الحياة بالنسبة إلى كثيرين أصبحت أكثر وحشة من أي وقت مضى إلى الحد الذي دعا فيه الخبراء والمتخصصون إلى التعامل مع الأمر بجدية شأنه شأن أمراض أخرى.
ففي حديث لـ”بي بي سي نيوز” هذا الأسبوع، عرضت له صحيفة “ذي تايمز” البريطانية، شرح جراح أميركي يدعى فيفيك مورثي “إحساسه العميق بالوحدة” خلال الفترة الأولى التي قضاها كجراح عام في عام 2017، يقول مورثي: “لقد أهملت عائلتي وأصدقائي خلال تلك الفترة. لقد عانيت بشكل كبير عواقب الأمر ليصبح إحساس الوحدة عميقاً بشكل لازمني لأسابيع وحتى لشهور”.
واستمر وصف الطبيب للوحدة بأنها “تحد بالغ للصحة العامة يساوي في أثره ما قد ينتج من آثار عن التدخين أو السمنة، وهو أمر يستلزم معالجة عاجلة”.
وللحديث حول هذا الموضوع، التقت “ذي تايمز” مع الدكتور رانجان تشاترجي، الطبيب العام ومؤلف كتاب “حل التوتر” The Stress Solution الذي ذكر أن “الشعور بالوحدة آخذ في الازدياد عالمياً وهي مشكلة بلغت حداً دفع بالحكومة البريطانية أخيراً إلى تعيين وزير متخصص بموضوع الوحدة”. وأضاف “لقد عرف العلماء منذ فترة طويلة أثر العزلة الاجتماعية السام. فمنذ عام 1979، وجد أن الأشخاص الذين لديهم عدد أقل من الروابط الاجتماعية كانوا أكثر عرضة بثلاث مرات للموت المبكر من أولئك الذين تربطهم بالغير علاقات اجتماعية أكثر”.
تشاترجي ذكر أن “الشعور بالوحدة يعني أنك أكثر عرضة بنسبة 30 في المئة للإصابة بسكتة دماغية أو نوبة قلبية. فالضغط الاجتماعي المرتفع والناجم عن العزلة هو عامل خطر ومسبب للوفاة بنسبة أكبر من الخمول البدني وتناول الكحول والتدخين معاً”. إذاً ما الذي يمكن فعله حيال هذا الأمر؟
بحسب المتخصصين الذين التقتهم “ذي تايمز” هنالك بعض الأمور التي يمكن القيام بها للتخفيف أو الخروج من العزلة التي تعيش بها:
اعتد على شيء ما
يقول شاترجي إننا كأمة نفتقر إلى الحالات الاجتماعية التي تجلب الناس إلى بعضها بعضاً مذكراً بما شهده العقدان الماضيان من انخفاض كبير في عدد الحانات والكنائس في المملكة المتحدة. فكلاهما كان مكاناً للالتقاء ومشاركة القصص والخبرات ومناقشة أي قضايا كانت تقلقنا.
ويضيف، “سواء كنت ذاهباً إلى المقهى المحلي في الوقت نفسه كل يوم لاحتساء القهوة، أو إلى ناد أو كنيسة أو مركز ترفيهي، فإن الزيارات المنتظمة إلى مكان ما والسلوك السعيد والمنفتح يمكن أن يساعدك على التواصل مع مجموعة جديدة من الأشخاص. لربما يمكنك التسجيل في حصة للتمارين أسبوعياً أو درس في الفنون، أو الاشتراك في صالة ألعاب رياضية أو ناد رياضي”!
يوافق كاري كوبر، أستاذ علم النفس التنظيمي والصحة في كلية مانشستر للأعمال، ما سبق حيث يرى أن: “الآباء يتحملون مسؤوليات رعاية أكبر بكثير مما اعتادوا عليه، وهذا أمر جيد، لكن حقيقة أن “ثقافة الحانات” قد تضاءلت على مر السنين تعني أن فرص الرجال على وجه الخصوص لبناء روابط اجتماعية أصبحت أقل”.
ويضيف، “يعاني الرجال دائماً مشكلة الشعور بالوحدة، لأنهم غالباً ما يواجهون صعوبة في إقامة علاقات وثيقة خارج أسرهم حيث يمكنهم التحدث عن أمور حياتهم، الأمر الذي قد يفاقم هذا الشعور. بالتالي، أن تصبح عضواً منتظماً في أماكن مختلفة – من خلال الانضمام إلى ناد رياضي محلي أو تعلم لغة جديدة، أو أي شيء ممتع بالنسبة إليك – قد يساعدك بشكل كبير في التخلص من شعور الوحدة”.
ابتعد عن الصداقات الإلكترونية
بينما يقر تشاترجي بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد ساعدتنا فعلاً في قطع شوط نحو الشعور بوحدة أقل، إلا أنه يشكك بجدوى هذا النوع من التواصل، حيث يقول، “تسجيل الإعجابات والتعليقات ليس بديلاً عن الأحضان والمحادثات. لا يتعلق مقدار اتصالك بالآخرين بعدد الأصدقاء لديك، ولكن بمدى جودة ونوعية هذه الصداقات”.
ويردف: “يفقد الأشخاص الأصغر سناً ممن يملكون المئات من روابط الصداقات السطحية عبر الإنترنت فن الصداقة والمحادثة في الحياة الواقعية. فوفقاً لمؤسسة الصحة العقلية، من المرجح أن يشعر الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة بالوحدة هذه الأيام أكثر من أولئك الذين تزيد أعمارهم على 55 سنة”.
يقترح تشاترجي وجود تفاعل واحد في الأقل في الحياة الواقعية كل أسبوع مع صديق، وهو ما يسميه “ضرورة مطلقة لصحة جيدة”، حيث يذكر: “إذا كنت لا تستطيع رؤية هذا الصديق لسبب ما، ارفع سماعة الهاتف أو اكتب رسالة أو أرسل بطاقة. خصص وقتاً لشيء أكثر أهمية من رسالة أو تعليق على ’فيسبوك’”.
استخدم العمل من المنزل والمكتب بشكل مناسب
كان هناك 4.2 مليون شخص يعملون من المنزل في المملكة المتحدة في عام 2014، أي ما يعادل 14 في المئة من الطبقة العاملة، لكن وبعد فترة الإغلاق التي رافقت جائحة كورونا، تظهر أحدث أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية، أن نحو 40 في المئة من البالغين يعملون الآن من المنزل.
يقول كوبر: “لقد غيرت الجائحة من طريقة عملنا، ربما للأبد… هذا له مزاياه من نواح كثيرة. ففي حين أن العمل الهجين (من المنزل والمكتب معاً) أو من المنزل يوفر المرونة ويقلل من كلفة رعاية الأطفال والتنقل، إلا أنه قد يكون كارثياً على حاجاتنا الاجتماعية”.
يعتقد كوبر أن النساء يتحملن العبء الأكبر بشكل خاص، نظراً إلى حقيقة أن لديهن حاجات اجتماعية أكبر ويشعرن بالوحدة بشكل أكثر حدة من الرجال. ومع ذلك، وفقاً لمسح أجراه “معهد تشارترد للإدارة” العام الماضي، من المرجح أن يعمل الرجال في الغالب أو بشكل كامل في المكاتب، بينما من المرجح أن يعمل النساء بشكل هجين ليلائمن وضع أسرهن.
كما وجدت دراسة أخرى نشرت في “مجلة الأعمال وعلم النفس” أن الأشخاص الذين يعملون من المنزل يعانون مستويات أعلى من التوتر بسبب العزلة الاجتماعية، في حين أظهر بحث أجرته كل من شركة الخدمات الاستشارية “ريليت” Relate وشركة الاتصالات “توك توك” TalkTalk أن خمس الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و44 سنة يشعرون بالوحدة، مقارنة بـ13 في المئة ممن تزيد أعمارهم على 65 سنة. وحول هذا يقول كوبر: “يتوقع الناس أن يكون كبار السن هم الأكثر وحدة، ولكن هذه الدراسة وجدت أن أولئك الذين يكافحون في حياتهم المهنية، ويعملون لساعات طويلة أو يعتنون بالأطفال معرضون للإصابة بالوحدة بشكل خاص”.
بالنسبة إلى كوبر، مكان العمل هو “المكان الذي تكون فيه العلاقات وتجد فيه من ينصحك ويدعمك، لذا فإن الوحدة تؤثر أيضاً في الشباب الذين هم في سن العمل. وعلى عكس من هم أكبر منهم سناً، فمن المرجح أن يعيشوا بمفردهم أو مع زملاء لهم في المسكن فقط”.
الحل، وفقاً لكوبر مجدداً، هو تحقيق أقصى استفادة من الأيام التي يمكنك فيها الذهاب إلى المكتب. أما في الأيام التي لا يمكنك فيها فعل ذلك، فقم بأشياء تساعد على التخلص من الوحدة كالخروج للمشي ولو لمرة واحدة في الأقل يومياً أو الاتصال بصديق أو قم بالسير في حيك وتحدث إلى الأشخاص ضمن مجتمعك”.
استثمر في مجتمعك – كما فعلت أثناء الإغلاق
على رغم الفظائع العديدة للجائحة، يعتقد كوبر أنه “كان من الغريب أن الناس اقترب بعضها من بعض أكثر ضمن مجتمعاتها عندما كانت محبوسة في المنزل”.
ويضيف، “أنا لا أتحدث فقط عن الإشادة بهيئة الخدمات الصحية الوطنية ليلة كل خميس. فأثناء الإغلاق، سادت روح المجتمع، والتي أظهرت الدراسات أنها تخفف من الشعور بالوحدة، لكن هذه الروح التي تحمي الصحة تراجعت ببطء مع عودتنا إلى الحياة الطبيعية. حتى أنني كونت صداقات مع جيران أثناء الإغلاق لم أكن أعرف بوجودهم من قبل”.
اندبندنت