حالُ القضاء واستقلالُه!
ليس حال القضاء في لبنان سوى انعكاس لحال النظام. والنظام لا يُقصد به الدستور والقوانين الأساسية كالتي تنظّم المؤسسات الدستورية، بل إنّه الانحراف عن تلك النصوص بالممارسة والمفاهيم الخاطئة المتراكمة والمتفاقمة والتي أصبح بعضها من المسلّمات في أذهان العامّة وأهل الاختصاص.
هذا الانحراف البنيوي المزمن يعود إلى البدايات حين قامت الدولة على التقاسم والتوازن وغيرها من المفاهيم التي تم تجميلها بكلمات كالميثاق والفسيفساء الوطنية، وكانت في الواقع تقاسم نفوذ شمل المناصب القضائية التي تشكّل خطرًا على مصالح أهل السلطة إذا كانت مستقلّة فتمت السيطرة على بعضها لحماية تلك المصالح أو تهديد الخصوم أو الانتقام من الخارجين على الولاء السياسي.
في غالب الأحيان كان المسار انحداريًا على الصعيد المؤسساتي وإن تخلّلته مراحل شهدت محاولات نهضوية بُنيت فيها بعض المؤسسات وقُدّمت بعض النماذج الصالحة التي لم تدُم فكان يتم الانقضاض عليها ليعود الانحدار فيطغى على المشهد بعد الإطاحة بالمكتسبات الإصلاحية القليلة. وقد تعاظمت هذه المشهدية وتفاقمت بعد الحرب الأهلية بسبب استمرار منطق هذه الأخيرة من حيث الصراع الطائفي على السلطة ومواردها ومواقع نفوذها وجرى تقاسم المواقع القضائية كغيرها من المناصب العامة.
دولة الحق أو القانون تعني من جملة ما تعنيه أن جميع السلطات تخضع في أعمالها لحكم الدستور والقانون، وتعني بأنه توجد محاكم تراقب وتضمن هذا الخضوع، ولكن النصوص الدستورية والقانونية الموجودة تصبح من دون قيمة فعلية عند غياب الرقابة القضائية على هذا التطبيق والسبب غالبًا ما يكون تغييب دور القضاء من خلال السيطرة على مواقعه الأساسية القادرة على المراقبة والملاحقة.
الدستور وضع الأساس الذي يقوم عليه استقلال القضاء في المادة 20، والمجلس الدستوري اعتبر أن استقلال القضاء، فضلا عن النص الدستوري الذي يكرسه، هو مبدأ من المبادئ ذات القيمة الدستورية، وأن استقلال القضاء لا يستقيم اذا لم يتأمن استقلال القاضي بتوفير الضمانات اللازمة التي تحقق هذا الاستقلال ومن ضمنها حق الدفاع، وعدم إقفال باب المراجعة أمامه عندما يتعرض لتدابير تأديبية. وأن حق مراجعة القضاء يشكل بالنسبة للقاضي في القضايا التأديبية، إحدى الضمانات التي عنتها المادة 20 من الدستور.
المجلس التأديبي للقضاة أصدر قرارات عديدة مؤخرًا، ثلاثة منها قضت بالصرف التأديبي وقد التزم بالسريّة التي تحكم عمله، وإذا بدت وجهته على فعالية وإنتاجيّة وقساوةٍ ظاهرة، فإن قراراته المعلّلة والملفات التي تستند إليها، تُرفع إلى الهيئة القضائية العليا للتأديب التي تتألف من رئيس مجلس القضاء الأعلى أو نائبه رئيسًا ومن أربعة أعضاء. وهذه الهيئة أُنشأت استجابةً للمبدأ الذي قرره المجلس الدستوري.
الولاء للسلطة السياسية أو لمواقع النفوذ الأخرى خارج القضاء هو نقيض استقلال القاضي، وهو مرضٌ يُصيب السلطة القضائية ليس في لبنان فقط بل هو موجود في كل مكان وبنسب متفاوتة. والحال في لبنان رغم سوئه ليس بالقدر الذي يشعر به الناس لأن الخمير الجيّد موجود في الجسم القضائي والأمل طبعًا يبقى معقودًا على القضاة الحقيقيين الكُثر الذين يمكن معهم إعادة بناء ما تهدّم متى قيّض لهم تولّي زمام الأمور.
أما النقاش حول استقلال القضاء والضمانات التي تحدث عنها الدستور، سيستمرّ وإن أقرّت النُسخ المختلفة من قوانين استقلال السلطة القضائية التي تناقش بعضها لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب، ما لم يتزامن مع إصلاح النظام وتقويم الانحراف المزمن الذي يعيشه.
إلى ذلك الحين يكفي إقرار عبارة واحدة تعدّل النص الذي يرعى المناقلات لتصبح نافذة دون الحاجة إلى مرسوم لإصدارها.
النهار