في لحظة اختلاف “النبرة” بين باسيل والحزب… تأتي مناورة بو صعب تحت سقف عبد اللهيان!
ماذا يعني قول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان من بيروت إنّ بلاده تدعم توافق اللبنانيين على رئاسة الجمهورية؟
نحَتْ مجمل القراءات السياسية والاعلامية لمواقف الوزير الإيراني إلى الاستنتاج أنّ هناك ليونة في الموقف الإيراني تجاه الملف الرئاسي، من دون أن تسأل عن معنى هذه الليونة وترجماتها العملية، وكأنّ تأكيد عبداللهيان دعمه توافق اللبنانيين كافٍ للقول إنّ هذا التوافق كما يراه الوزير الإيراني يعبّر عن تبدّل في الاستراتيجية الإيرانية تجاه لبنان.
الغريب أنّ بعض القراءات أوحت بأنّ عبد اللهيان ضغط على حزب الله لتليين موقفه من الاستحقاق الرئاسي لا في ضوء الواقع الداخلي المأزوم وحسب، بل أيضاً في ضوء الاتفاق السعودي- الإيراني، الذي توقّع الوزير الإيراني أن ينعكس إيجاباً على المنطقة ولبنان، وإن كان قد أشار لدى مغادرته بيروت إلى أنّ الاتفاق حصل ولم يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية بعدُ!
قراءات متفائلة
ما زاد من يقين أصحاب هذه القراءات المتفائلة أنّ مواقف كوادر الحزب تبدّلت بعد زيارة الوزير الإيراني. فبعدما كان الشيخ نعيم قاسم قد لوّح بمعادلة “فرنجية أو الفراغ” واستفاض الشيخ هاشم صفي الدين في شرح أهمية عرض الحزب ترشيحه سليمان فرنجية الذي قد يندم معارضوه على تفويته، خرج النائب محمد رعد بعد زيارة عبداللهيان للقول إنّه لا سبيل لإنجاز الاستحقاق الرئاسي إلا بتفاهم الجميع، و”نحن دعمنا مرشّحنا للرئاسة لكن لم نغلق الأبواب ودَعَوْنا الآخرين إلى أن يطرحوا مرشّحهم”.
صحيح أنّ عبداللهيان قال من بيروت إنّه أعطى توصيات لحلفاء إيران، لكنّ هذا غير كافٍ للقول إنّ طهران ضغطت على الحزب لتعديل موقفه في الملف الرئاسي. والحذر في تبنّي “نظرية” ضغط طهران على الحزب لا يمليه الاقتناع بنفي إيران تدخّلها في الشؤون اللبنانية، بل إنّ اللغط الكبير هنا يكمن في محاذير الدخول إلى دائرة أخذ القرار بين طهران والحزب، لأنّها دائرة غامضة ومقفلة. لكنّ الأكيد أنّه لا يجوز استسهال القول إنّ طهران تضغط على الحزب، وكأنّه يمكن أن يأخذ قرارات لا تنسجم مع السياسات الإيرانية، أو كأنّه ينتظر أمراً إيرانياً لأخذ هذا الموقف أو ذاك. تخلق كلّ هذه التخمينات واقعاً وهمياً حول كيفية اتخاذ الحزب قراراته وحول طبيعة علاقته بطهران.
دفع التهمة
يعيدنا كلّ ذلك إلى السؤال الأساسي عن معنى دعوة عبداللهيان إلى التوافق التي أعقبها كلام رعد عن “عدم إغلاق الأبوب”.
في الواقع أنّ موقف رعد يدخل أوّلاً في باب محاولات حزب الله دفع تهمة تعطيل الاستحقاق الرئاسي عنه ورميها على الآخرين الذين “لم يطرحوا مرشّحهم”. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الحزب في وارد التمسّك بفرنجية إلى النهاية في حال لم تتأمّن شروط انتخابه في التوقيت الذي يراه الحزب مناسباً لانتخاب رئيس، أي أنّ معادلة فرنجية أو الفراغ هي معادلة ساقطة أصلاً ولا تعدو كونها تهويلاً ما دامت اصطفافات المجلس النيابي على حالها، وخصوصاً في ظلّ معارضة كتلتَي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر المسيحيّتين لانتخاب فرنجية.
لكنّ السؤال الأهمّ ليس متى يبدي الحزب استعداداً جدّيّاً لفتح الأبواب المغلقة، بل عن كيفية فتح هذه الأبواب؟ أي ما معنى التوافق على رئيس الجمهورية في قاموس الحزب وطهران؟ وهل دعوة الحزب إلى التوافق تعني حكماً تنازلاً من قبله؟
أيّ تنازل؟
تفيد كلّ المعطيات الداخلية والخارجية أنّ طهران ليست في وارد تقديم تنازلات تُظهرها الآن كما لو أنّها تتصرّف تحت الضغط أو أنّ نفوذها في المنطقة مهدّد. كان ذلك واضحاً في تفسير إيران للاتفاق مع السعودية على قاعدة أنّه خيار استراتيجي بدفعٍ من “سياسة الجوار” التي تتبنّاها طهران، وأنّه لم يكن محاولة متقدّمة للالتفاف على الضغوط التي تواجهها إيران في الداخل والخارج. أضف إلى ذلك أنّ طهران منذ توقيع الاتفاق أبدت استعداداً أكبر للردّ على الهجمات الإسرائيلية ضدّها على أرضها وفي سوريا، وإن كان قياس حجم ردّها يفترض أن يأخذ في الاعتبار زيادة وتيرة الضربات الإسرائيلية ضدّ مواقعها في سوريا وبوتيرة غير مسبوقة.
لكن في المحصّلة أرادت إيران القول من خلال عراضة “ربط الساحات” الشهر الماضي، إنّها أصبحت تتحرّك ضمن بيئة استراتيجية أفضل بعد اتفاق بكين. وهو ما يفسّر أيضاً هجومها على القواعد الأميركية في سوريا بعد ذاك الاتفاق.
الثوابت الإيرانيّة
لاقت هذه المعادلة الإيرانية صداها في كلام عبد اللهيان من مارون الراس عندما قال إنّ التهدئة الإقليمية لا تشمل الجبهة مع إسرائيل، وقبل ذلك عندما أعلن فور وصوله إلى مطار بيروت أنّه هنا لدعم الشعب والجيش والمقاومة.
يكون الوزير الإيراني بذلك قد أعاد تكرار “الثوابت الإيرانية” في لبنان، أي أنّه وضع العناوين الاستراتيجيّة للمرحلة اللبنانية المقبلة من خلال تأكيد استمرار الجبهة مع إسرائيل جنوباً على الرغم من اتفاق الترسيم البحري، والإصرار على ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة.
إذاً عن أيّ تنازل إيراني يمكن الحديث ما دام أيّ تنازل من قبل طهران والحزب في ملف الرئاسة لا يمكن أن يكون تحت هذا السقف الاستراتيجي الذي وضعه عبداللهيان؟
هل التنازل عن ترشيح فرنجية لاصطدامه بمعوّقات داخلية وربّما خارجية يُعدّ تنازلاً ما دام أيّ رئيس جديد سيكون ملتزماً حتماً، في ظل موازين القوى الحالية، بـ”سقف عبداللهيان”؟
إذا كانت المعارضة عاجزة عن إسقاط هذا السقف، فإنّ تنازل الحزب عن مرشحّه أمامها ليس بتنازل حقيقي، بل هو أشبه بمناورة، بل وهو تنازلٌ بطعم الفوز.
قبل أن تكون المعارضة عاجزة عن دحض تلك “الثلاثية” المصطنعة، هي عاجزة عن الاجتماع وعن خوض المعركة الرئاسية بعنوان موحّد ومرشّح واحد. فأمام أيّ معارضة يتنازل الحزب، والمعارضة معارضات؟
التنازل لباسيل
لكن من الناحية التكتيكية يمكن البدء مجدّداً بالتقاط مؤشّرات إلى إمكانية الحوار بين الحزب والنائب جبران باسيل بشأن رئاسة الجمهورية، أي أنّ تنازل الحزب إن حصل فهو سيحصل أمام باسيل، أي ضمن “البيت الواحد”، وهذا لن يكون تنازلاً أبداً بل هو فوز.
فعلى الرغم من كلّ اعتراضاته على الحزب منذ بدء الفراغ الرئاسي يظلّ باسيل مستعدّاً للعودة إلى كنف الحزب بإرساله إشارات قبول بالحوار معه في الملف الرئاسي.
لذلك دعوة رعد إلى التوافق بشأن الرئاسة لا تشمل أوّلاً حزبَي القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية إلا بقدر إظهار الطرفين استعداداً للقبول بشروط الحزب، بل هي موجّهة أساساً إلى باسيل، لأنّ الحزب يريد كسر “البلوك” المسيحي المعارض لفرنجية، وهذا يعزّز قدرته على فرض مرشّحه الأوفر حظّاً في أيّ تسوية داخلية-خارجية.
قواسم بو صعب
في السياق عينه يجب الآن تتبُّع حراك نائب رئيس البرلمان الياس بو صعب الذي بدأه (ويا للمفارقة!) بلقاء محمد رعد في حارة حريك، ثمّ زار البطريرك بشارة الراعي والدكتور سمير جعجع، مع أنّ “مارونية” رئاسة الجمهورية كانت تقتضي أن يبدأ بو صعب حراكه من بكركي. لكنّ التموضع السياسي الداخلي لبو صعب واضح لا لبس فيه، وهو وإن وقف إلى جانب باسيل خلال المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عناوين الخلاف مع الحزب في كانون الأول الماضي، فإنّه سرعان ما أظهر تمايزاً عن رئيس التيار الوطني عندما ذهب الأخير في خلافه مع الحزب أبعد ممّا توقّع بو صعب، أو أبعد ممّا أمكنه احتماله.
لقراءة دوافع حراك بو صعب واحتمالاته بشكل صحيح لا بدّ من الانطلاق من أنّه يحظى بمباركة حزب الله. وهذا يسهّل توقّع أهدافه في لحظة اختلاف “النبرة” بين باسيل والحزب. فحتّى لو تكلّم بو صعب من معراب عن القواسم المشتركة بين اللبنانيين، فهو يسعى أوّلاً وأخيراً إلى القواسم المشتركة بين الحزب والتيار وإلى أن تكون هذه القواسم بينهما قاعدة القواسم مع الأفرقاء الآخرين، بمن فيهم القوات اللبنانية الطرف الأقوى في المعارضة. وستكون نتيجة أيّ حوار بين القوات والتيار الآن خفض القوات سقف طموحها الرئاسي، أي تقدّمها خطوات باتجاه المرشّح الذي يُرضي الحزب قبل التيار. وهذا ما يجعل من حراك بو صعب مناورة صافية، ودائماً تحت “سقف عبداللهيان”!
ايلي القصيفي- اساس