دولة مطلوبة لا دولة تطلب
كنتُ قررت أن لا ضرورة للكتابة في الذكرى الخمسين على غياب فؤاد شهاب. فما تبقّى لي شيء لم أكتبه عنه. ولم يبقَ في سيرته منحى لم تتم الإضاءة عليه. وإذا كان القصد من ذِكر الاموات تذكير الأحياء، فهُم معدومو الذاكرة الأخلاقية، آنيّون، قصّار النظر، لا علاقة لهم بتلك الأحاسيس النبيلة التي جعلت من فؤاد شهاب حالة نادرة بين الرؤساء والسياسيين والعسكريين وال#لبنانيين في صورة عامة: الحسّ الإنساني، والحسّ الوطني، والشعور بالكرامة.
لكن في استعادة ذلك النموذج وما تمتَّع به من خصائل، تكبر في المقارنة أكثر فأكثر، في ميزات فؤاد شهاب، صفة المعرفة ايضاً، وثقافة الحكم والإدارة، قائداً للجيش ورئيساً للجمهورية. معظم الذين اختارهم من خبراء أجانب أو رجال حكم، استند الى كفاءتهم وقدراتهم، وليس فقط الى سمعتهم الاخلاقية واللاطائفية. وفي حسّه العالي كرجل دولة، أدرك أنه يؤسس، والأسس تحدّ. وكان قليل الثقة باللبنانيين. لذلك، جهد في اختيار الثّقات.
يخامرني ظنٌ بأن أحد عناصر التأثير فيه، كانت السيدة روز شهاب، التي تعرَّف اليها أيام المدرسة الحربية في مدينة توكيه. ربما بسببها لم تكن في البيت زوجة تريد الدولة لأقربائها وأقربائهم. هكذا بقي القصر الجمهوري بيت الأمة، لا بيت العائلة، وبتأثير منها، أو تجاوب معها على الأرجح، تمثل شارل ديغول وتمثلت هي العمّة ايفون، ولو من دون أحفاد تشتري لهم الشوكولا من المخزن القريب.
أبكانا فؤاد شهاب على حالنا، لا على غيابه. عسكري شمخ مثل السيف الذي تخرّج به، ومدني شهم مثل اليمين الذي ادّاه. العسكري والمدني معاً، حاول لملمة الجمهورية من اطرافها. عشائر الهرمل وفقر الجنوب. في كل قرية مدرسة وفي كل مزرعة كهرباء. حتى أسماء القرى المهينة من أيام الاقطاع حرَّر أهلها منها، واصبحت “اسطبل” عين المير. لم يترك مواطناً إلاّ وفكر فيه من اجل ان يكون لبنان وطناً، لا قبيلة، ولا غابة، ولا منهبة عمومية سائبة.
في حماستهم الشديدة أساء بعض رجال المكتب الثاني الى “الأمير اللواء فؤاد عبدالله شهاب”. وبالغوا في تفسير الأمن، وجعلوا من ذلك نقطة ضعفه الكبرى، ومع ذلك ظل أنقى وأصدق مَن حاول بناء دولة.
لم يبقَ شيء، أو أحد لم يهزّىء هذه الدولة. تناوب عليها الأصدقاء والأشقاء والأعداء، حتى غدت ما هي اليوم: دولة مطلوبة، لا دولة تُطلب. ملصقات صورها معلقة على كل اعمدة العالم ومخافره ومحاكمه وعقوباته. جميع انواع المطلوبين والهاربين والتقارير الطبية. كان المطلوبون يهربون الينا، والآن لا نعرف الى اين نرسل مطلوبينا ومطلوباتنا. ثلاث سنوات وكل شيء ينهار، ولم يصدر عن الدولة حتى إخبار واحد في حق أحد. المصارف تسرق البشر، وتنهب أعمارهم، والكهرباء عتم عميم. ولا يُسمح لشركة الكهرباء بتسمية “هيئة ناظمة”، بل منظومة يتبرأ بها سائر البلاطسة. كيف للدول ان تبقى في كل هذا الصدأ وكل هذا التهرب من أدنى درجات المسؤولية؟ الديك يصيح وبطرس ينكر. ويستمر بطرسهم في النكران. بطرس مزيف في الأساس. سيّان عنده التهمة والخلاص. ما من منظومة سلطة في العالم تواجه كل هذه التهم من هيئات رسمية وقانونية. كمٌّ مريع من التهم وعدد مريع من المتهمين، وعدد رهيب من الذين لم توجه اليهم التهم بعد. اختلط الفاسق بالفاسد، وكلاهما ينادي بالطهارة.
لو قامت دولة فؤاد شهاب ولم تُدمَّر اسسها وترمَّد جدرانها، لمَا كنا اليوم وسط هذا السخام. لكان عندنا خفر من جدودنا وحياء من أولادنا، وخوف على ضمائرنا من اليباس.
لماذا نتذكر فؤاد شهاب وقد تركناه يموت وحيداً معزولاً؟ أيّ علاقة لنا – جميعاً – برجل بلغ قيادة الجيش ورئاسة الجمهورية نحو ربع قرن وبقي بلا حاشية، وبلا أزلام، وبلا ثروات، بل بلا ما يسد الجوع، مثل فرنسيس الاسيزي.
حافظ فؤاد شهاب على جوهر البلاد وأمن الناس وسنن النمو والتطور، وحمى هشاشة التعدد وصانعَ بصعوبة مكامن الغرائز، لكن الجميع أفسد عليه ان يحوّل كل ذلك الى مؤسسة. القانون لا يعيش في لبنان. لا يبيض ولا يفقس. ديوك مكسيكية تعيش على ريش سواها، وتظن الغضب صيغة الحياة وهزيمة الآخر قمة الفوز.
لذلك نحن اليوم شعب مهشّم ودولة مهمّشة. فرحنا الوحيد هزيمة سوانا. الديك لا يفكّر ولا يشعر ولا يحسب. فقط يتمخطر فارغ الرأس، فارغ القامة، كثير الألوان. وعفوكم، إنْ أنا نقلتُ مرة أخرى عن الجاحظ، فقد كان خبيراً في طبائع الإنسان والحيوان، خصوصاً الديوك والطواويس وما اليهما من “غطاريس” وعابثين في حياة الناس.
أتقن الجنرال شهاب فن المعرفة وطلبها في كل شيء. وتعامل مع الحكم على أنه عبادة، ومع السلطة على أنها أمانة التقوى. لم يحرك الجيش مرة لنفسه، ولا اعتبر الرئاسة إرثاً يؤخذ ثم يورَّث. منعها عن عبد العزيز شهاب حتى لا تُسجّل عليه شبهة الإسم وضراوة التملك. لكن هذه النفس الأبية لم تدم طويلاً. سرعان ما عاد اللبنانيون إلى أنانياتهم و”نامت نواطير مصر عن ثعالبها”. وتساقطت الدولة حجراً حجراً من الاهتراء. ولم يعد في إمكاننا ان نشكل حكومة، أو نستورد شحنة مازوت، أو نسحب راتباً. وقعت الدولة في قبضة الطواويس وغاص الطواويس في برك العتم وبحيرات الفساد. حتى “عيونهم” كما في جحيم دانتي.
النهار – سمير عطالله