صراحة فرنجية… “مرمر زماني”: أي صراحة وأي رئيس ينتظرنا؟
لا أحد ينكر صراحة رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، وحتماً الشعب اللبناني يقدّر هذه الصراحة لأن الوضع في لبنان لم يعد يحتمل مفاجآت ورهانات على محور الممانعة أو فريق 8 آذار الذي يقر فرنجية ويعترف بأنه ينتسب اليه.
موضوعياً، صراحة فرنجية ميزة ايجابية في الشكل، إلا أن المشكلة تكمن في مضمون هذه الصراحة، فالرجل موضع ثقة بالنسبة إلى الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله ورئيس النظام السوري بشار الأسد، وهما أكثر من سبّبا الأذى لسيادة لبنان واستقلاله وقراره الاستراتيجي وللدستور والمؤسسات الرسمية، ولولا معرفتهما بأن فرنجية سيكون “الرئيس” الحامي لدويلة نصر الله وميليشياته وسلاحه وتبعيته لإيران، والوفي لمصالح الأسد في لبنان من جهة أخرى، فهما لا يمكن أن يدعماه!
في الحقيقة، ما يعد به فرنجية من ضمانات ونيّات حسنة سبق أن سمعناها من الرئيس السابق ميشال عون. ربما يختلف أسلوب فرنجية عنه، وقد يستقيل إذا لم يوفق، كما قال، إلا أن الوضع لم يعد يحتمل اختبارات، فـ”حزب الله” لن يؤجّل مشروعه من أجل إنجاح رئاسة فرنجية، لأن اداءه لم يتغيّر منذ 2005 حتى اليوم، وبالتالي النتائج معروفة.
رغبات فرنجية في الرئاسة هي حق شرعي له، وإطلاق الوعود والضمانات هي نصف الصراحة، ويبقى النصف الآخر الذي لم يقله أي الويلات والمصائب التي وضعنا فيها فريق 8 آذار، ولا يمكن الخروج منها إلا برئيس جديد لا يكون من الفريق السياسي الذي ينتمي إليه فرنجية، لا بسبب خلل في شخصه أو مزاياه، وانما المعادلة السياسية والاقليمية والدولية تقول بأن رئيساً محسوباً على محور الممانعة يعني استمراراً في الهبوط نحو قعر الجحيم والمزيد من الفوضى الاقتصادية، واستطراداً الفوضى الأمنية بغض النظر عن الأسماء، وهذه هي حقيقة الموقف السعودي الذي لا يريد فرنجية الاعتراف به. ففريق 8 آذار يُحسن القتال ولكن لا يُحسن إطلاقاً إدارة الدولة، وأولويته مشروعه العقائدي الاقليمي وليس لبنان واللبنانيّين، وهذا عن تجربة مباشرة عمرها أقله 18 عاماً، ما يستوجب كفّ يده وليس منحه أعلى المواقع، لأن وجوده في الحكم يعني أنّ لبنان يُدار من الدويلة لا من الدولة.
واللافت أن صراحة فرنجية خانته قليلاً من خلال عدم اعترافه برفض الأكثرية المسيحية له، وهذا ما يجعل منه رئيس تحدٍ، بدلاً من صورة المرشح “التوافقي” الكاذبة التي يحاول الثنائي الشيعي التسويق لها منذ بدء المعركة الرئاسية.
ولا شك في أن صراحة فرنجية صادمة وخصوصاً عندما اعترف بأنه ليس نادماً على مواقفه السابقة، وهي حافلة بالتبعية لسوريا ومحور الممانعة، وهذه المواقع ليست سوى نقاط سوداء في مسيرته السياسية. ويُفاخر بأن انتماءه الى هذا المحور آت عن قناعة شخصية، ما يزيد الطين بلّة، ويجعل منه مطيعاً لـ”حزب الله” من دون إكراه، بل بملء ارادته، حتى من دون أن يضطر “الحزب” إلى الطلب منه، فأي صراحة وأي رئيس ينتظرنا؟ بمعنى آخر، سيكون فرنجية داعماً طبيعياً لـ”الحزب” إذا ساءت علاقة إيران مجدداً بالخليجيين والعرب! هذا الأمر سيدخل لبنان في نفق مظلم، علماً أننا لا نزال نجتاز النفق الأسود الذي وضعنا فيه “الحزب” خلال عهد عون.
وبصراحة لا ثقة للشعب اللبناني ولا للقوى السياسية السيادية بأن علاقة فرنجية مع الأسد ونصر الله ستكون من الند إلى الند، فتاريخ هذه العلاقة لا يوحي بذلك، وربما جدليّة القول والفعل ستحكم علاقة فرنجية “الرئيس” بملفات عديدة مرتبطة بالنظام السوري و”حزب الله”، أهمها: الترسيم البحري شمالاً وترسيم الحدود البحرية إلى ملف النزوح وملفات المعتقلين اللبنانيين مع الأول، وتجفيف نفوذ “الحزب” الإقليمي، واسترداد قرار السلم والحرب، وترسيم الحدود بين الدولة والدويلة، فإن فعلها فرنجية كيف سيستفيد “الحزب” من حماية “ظهر” المقاومة؟
أما ثقة السيدين نصر الله والأسد بشخص فرنجية فلا تفيد اللبنانيين بشيء، لأن الأول لن يسلِّم سلاحه للدولة اللبنانية أو يعيده إلى إيران “كرمال سواد عيون البيك”، والثاني لن يعيد النازحين الذين هجّرهم ولا يريد إعادتهم لأنّ “البيك بيمون”، فيما منطق السيدين نصر الله والأسد هو أنّ مَن يعملا على إيصاله إلى مواقع سلطوية يجب أن يكون في خدمة مشروعهما ومصالحهما وليس العكس. ولا داع للتذكير بصراحة فرنجية عندما قال عبارته الشهيرة التي لا تزال تتردد حتى اليوم في آذان اللبنانيين “بأن أولادنا وأحفادنا سيحسدوننا أننا عشنا في زمن السيد حسن نصر الله”.
وإذا كان هذا الموقف سابقاً ولا يندرج في مخططات فرنجية، فهو أدهشنا بصراحته منذ أسبوع عندما أجاب عن سؤال عمّا إذا كان يعِد الشعب اللبناني بأنّ قرار السلم والحرب سيكون بيد الدولة، وبالتالي التوصل إلى استراتيجية دفاعية، فأجاب: “ما أقوله إننا سنبقى نعمل لنذهب في الطريق الصحيحة والحلّ هو أن نصل إلى مرحلة يشعر خلالها اللبنانيون بأنّ هذا السلاح غير موجه باتجاههم”. وهنا المشكلة، بل لبّ المشكلة في هذا الكلام الصريح، إذ أكّد بالفم الملآن أنّ هذا السلاح باقٍ ولم يعذِّب نفسه حتى، على غرار غيره، بربطه بأزمات المنطقة ووجود إسرائيل، إنما المطلوب كلّه بنظره، وهنا يكمن الدور الذي يعرضه من الباب الرئاسي، في أن يتوسّط بين “حزب الله” واللبنانيين من أجل إشعارهم بأنّ هذا السلاح غير موجّه ضدهم، وأن يتقبلوا الأمر الواقع والتعايش في ظلّ دولة وميليشيا.
فما يعرضه فرنجية على اللبنانيين هو التعايش والتأقلم مع سلاح غير شرعي، وهذا المنطق مرفوض كليّاً، وأحد الأسباب الرئيسة للأزمة اللبنانية متأتية من سلاح “حزب الله”، فلا دولة فعلية في حال بقاء هذا السلاح، ولا استقرار طبعاً ولا ازدهار ولا عدالة ولا دستور ولا مؤسسات.
وقد أخطأ فرنجية في التوصيف أيضاً، بحيث أنّ أحداً من اللبنانيين لا يخاف من سلاح “حزب الله” في حال أراد توجيهه باتجاههم، فالمشكلة ليست هنا على الاطلاق، ولا أحد يريد تطمينات ولا ضمانات من أحد، إنما لبّ المشكلة وجوهرها أن لا دولة في ظل سلاح غير شرعي، وما يريده معظم الشعب اللبناني هو قيام دولة طبيعية كأي دولة تحترم نفسها في هذا العالم، وليس تنظيم التعايش بين دولة شكلية وميليشيا فعلية تتحكّم بمصيرهم وتتحرّك وفق ما تمليها عليها عقيدتها الثورية الخمينية.
فلا يمكن القبول برئيس جمهورية يريد إقناع اللبنانيين بأنّ سلاح “حزب الله” أبدي وسرمدي، وأنّ دوره إقناع الحزب بعدم استخدام سلاحه ضدّ الشعب اللبناني، وإشعار اللبنانيين بأنّ هذا السلاح غير موجّه ضدّهم.
إنّ بعض القضايا لا تحتمل أنصاف الحلول ومعالجتها تكون على طريقة إما أبيض أو أسود، فلا سلاح خارج سلاح الدولة، وميليشيا “حزب الله” لم تسلِّم سلاحها أسوة بسائر الميليشيات، ولن نطالبها بعطل كبير وضرر كثير تسببت به بفعل تمسكها بهذا السلاح، إنما لا خيار أمامها سوى إما تسليمه للدولة وحلّ التنظيم العسكري والأمني، وإمّا إعادته لإيران، وخلاف ذلك يستدعي التفكير في تركيبة لبنانية جديدة.
جورج حايك- لبنان الكبير