من مرحلة حمل السلاح إلى مرحلة الإقتصاد: رئيسي في دمشق بدلاً من الرّياض… الأولويّة لمَن؟
تبدو السياسة الخارجية لإيران متجهة عملياً نحو التغيير، لكن واقعياً، ليس تجاه آمال المنطقة العربية وطموحاتها من المصالحة مع نظام الجمهورية الإسلامية؛ بل يسير ذلك وفق تفسير هذا النظام بما يحافظ على السياسة التي رسمها لمنطقتنا العربية.
والسبب يتلخص في أن هذا النظام ما زالت تحكمه العقلية نفسها التي تستغل الشعارات الدينية والمثالية في خدمة أهدافه القومية التوسعية. فبدلاً من أن يكون الحديث عن المحور الشيعي الإيراني من طهران إلى بيروت، يحدثنا عن محور المقاومة، الذي لا نعرف مَن المستفيد منه سوى طرفي اللعبة (إيران وإسرائيل)!
وتكشف لنا الخلافات داخل أروقة السياسة في إيران، أن سلوكها الخارجي ما زال أسيراً للرؤية المحافظة التي تبدأ من بيت المرشد الأعلى علي خامنئي، وصولاً إلى مصالح الجناح المتشدد والحرس الثوري الإيراني، إذ نجد وزير الخارجية حسين عبد اللهيان، يحاول إحراز أي تقدم خارجي يُجمّل به مسيرته الدبلوماسية؛ لكنه يصطدم بمعسكر الصقور الذي يخترق السياسة الخارجية. فداخل البرلمان كان نواب المدن المحاذية لأفغانستان يجمعون التوقيعات لاستجواب عبد اللهيان بخصوص إدارة ملف المياه مع حركة “طالبان”. لكن الحقيقة أن إدارة السياسة الخارجية ليست بيد وزير الخارجية! وأن هناك تنازعاً بين القوى الخفية والمعلنة على إدارة هذه السياسة.
حتى أن الإعلام الإيراني تناول خلافات بين عبد اللهيان ورئيسه إبراهيم رئيسي، إلى درجة بعثه برسالة إلى المرشد خامنئي، محاولاً كسب دعمه لتحقيق نجاح على مستوى الملف النووي، الذي يمثل المفتاح الحقيقي لحل أزمات إيران الداخلية، إذ يشعر عبد اللهيان بمحاصرة عمل وزارته من جانب فريق الرئيس وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.
وبينما يرغب عبد اللهيان أيضاً في الخروج من مراوحة المفاوضات النووية، بالدفع بعودة كبير المفاوضين السابق عباس عراقتشي، الذي أوصل هذه المفاوضات إلى شط الاتفاق خلال حكومة حسن روحاني السابقة، يصر الرئيس الإيراني على استمرار كبير المفاوضين الحالي علي باقري كني. بل تم اقتراح سفير إيران في إسلام آباد محمد علي حسيني، بديلاً لعبد اللهيان إذا ما قرر مغادرة الخارجية، بخاصة أن حسيني يعبر عن احتياجات إيران في هذه المرحلة، بخبرته في المنطقة العربية والآسيوية وعلاقاته القوية مع المحافظين ومعسكر الحرس الثوري.
ولذلك عندما خرج علي شمخاني علينا من بكيّن بدلاً من عبد اللهيان، ليعلن اتفاق المصالحة مع السعودية برعاية صينية؛ لم يعبر هذا عن اتفاق قوي، لأنه تحت إشراف الأمن القومي الإيراني؛ بل عبر عن وجه النظام الإيراني عملياً، الذي أراد أن يقول: سنحدث تغييراً في سلوكنا الخارجي بما يخدم مصالحنا بطريقة أخرى!
هناك تغيير ولكن!
خرج عبد اللهيان في جولة إقليمية، التقى في مسقط، 25 نيسان (أبريل)، رئيس وفد الحوثيين محمد عبد السلام، مؤكداً وحدة تراب اليمن. ثم بعدها في بيروت، 28 نيسان، أوحى بأنه جاء ليضع حلاً لتحسين وضع لبنان، مؤكداً في كلامه “أنّ محور المقاومة مصمّم على قلب المعادلة”!
وهنا يبدو أن إيران تسعى لأن تُعلن عن استراتيجيتها الخارجية الجديدة بطريقة عملية، فبينما حدد بيان المصالحة، 10 آذار (مارس)، مدة شهرين لعودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية – وكأنها فترة اختبار لمدى جدية طهران في الالتزام بالاتفاق ومبدأ “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية” – أعلن عبد اللهيان من بيروت أنه اتفق مع نظيره السعودي، فيصل بن فرحان، على تبادل فتح السفارات خلال الأيام المقبلة، وكأن الوزير الإيراني أراد أن يقول لقد التزمنا بالفعل اتفاقنا مع الرياض، بأن دعمنا الحل في اليمن. ولكن أيضاً بالنسبة إلى وجودنا في الهلال الشيعي (من طهران إلى بيروت) فإننا سنديره وفق سياستنا ومصالحنا.
كانت رسالة طهران من بيروت واضحة في الإعلان عن هذه الاستراتيجية الجديدة، فلم تكن زيارة من أجل وضع حل لهذا البلد الذي طحنته الأزمة الاقتصادية، بقدر ما كانت السفارة الإيرانية في بيروت منبراً أعلن منه عبد اللهيان “مانفيستو” السياسة الجديدة لبلاده تجاه المنطقة.
فإيران وفق مُصالحتها مع السعودية، لن تفرض رئيساً على لبنان؛ لكنها أيضاً لن تفلتْ يدها من يد ميليشياتها ومواليها، فقد التقى عبد اللهيان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، والتقى أيضاً مسؤولين من حركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين. بل ذهب إلى الحدود اللبنانية في قرية مارون الراس، وغرس شجرة زيتون، وتحدث عن دعم طهران المقاومة في وجه إسرائيل، وأعاد الحديث عن مقترح إيراني قديم، اقترحه خامنئي قبل أكثر من عشرين عاماً يرى حل القضية الفلسطينية في إقامة استفتاء شعبي على حق تقرير المصير.
والرسالة من ذلك: أن طهران إن كانت قد حيّدت تهديدات ميليشياتها عن المنطقة الخليجية؛ لكنها لن تتراجع عن الدعم الذي تقدمه لهذه الميليشيات ما دام هناك كيان اسمه إسرائيل، وهو ما تكرر في خطابات المرشد خامنئي، خلال الأيام الماضية، بتأكيده أنّ سرعة زوال “إسرائيل” تزداد يوماً بعد آخر.
في دمشق بدلاً من الرياض
أيضاً، الرئيس الإيراني الذي الأولى به أن يذهب إلى الرياض لتلبية دعوة العاهل السعودي، قرر الذهاب إلى دمشق، الأربعاء المقبل، حسبما تداولت وسائل الإعلام الإيرانية.
وهذه الزيارة هي تأكيد من جانب طهران لبوصلتها بعد اتفاق المصالحة، فرسالتها منها، أنه قد حان وقت الحصاد وجني ثمار الاستفادة من القوة الصلبة؛ حيث سيتم التوقيع على اتفاقيات استراتيجية بين طهران ودمشق، تجني إيران منها مكاسبها الاقتصادية من الدعم العسكري الذي قدمته لسوريا خلال السنوات الماضية.
أي إن إيران تريد القول إن محور المقاومة دخل مرحلة التكامل والتطور ليشمل ملفات اقتصادية إلى جانب شقه العسكري. وهو ما أفصح عنه صراحة مساعد الرئيس الإيراني للشؤون السياسية محمد جمشيدي، الذي قال، 29 نيسان (أبريل)، إن “زيارة رئيسي لدمشق تمثل تكليلاً لانتصار محور المقاومة، بعدما مرت منطقة غرب آسيا بفترة شديدة من التوتر على مدى 12 عاماً من التحول الجيوسياسي، كان الفائز فيها هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والخاسر هو الولايات المتحدة الأميركية، ولقد علّمَ قاسم سليماني الجميع، أن القوة هي السبيل الوحيد لنجاح الدبلوماسية”.
المحصّلة
إن اتفاق المصالحة بين إيران والسعودية، لا يعني تعديل إيران سلوكها الخارجي كلياً، وإنما بالشكل الذي يحمي علاقاتها ومصالحها مع دول جوارها في الجنوب، بخاصة أن دول الخليج هي طريق مهم لوضع إيران على خريطة التجارة بين الشمال والجنوب.
لم يذهب وزير الخارجية الإيراني إلى فيينا لدعم استئناف المحادثات النووية، وذهب بدلاً منها إلى بيروت، وهناك اجتمع مع القادة السياسيين؛ ليوحي للعالم بأن ثمة سياسة إيرانية جديدة قد تشكلت بعد اتفاق المصالحة؛ بينما واقعياً كانت بيروت منبراً إيرانياً بامتياز، وجه من خلاله رسائل بأن طهران لن تتراجع عن محورها الشيعي الذي يمتد من طهران إلى بيروت.
ثم تأتي زيارة الرئيس الإيراني دمشق بدلاً من الرياض، لتأكيد أن ما تسميه إيران محور المقاومة قد توسع من مرحلة حمل السلاح إلى مرحلة المصالح الاقتصادية التي تضمن القوة والاستمرارية لهذا المحور، وأن التغيير الذي قد يقع في هذا المحور يجب أن يكون أولاً في خدمة المصالح الإيرانية، تحت شعار دعم محور المقاومة. كما أن المصالحة المنتظرة بين دمشق والدول العربية من جانب، ودمشق وأنقرة من جانب آخر، تستوجب من طهران الانتقال إلى شكل جديد في علاقاتها مع دمشق.
وإذا نجحت إيران بالفعل في تحقيق المكاسب الاقتصادية من خلال دعمها هذا المحور؛ فإنها ستمثل نقطة قوية لحكومة المحافظين، بخاصة أن الداخل لطالما رفع شعارات احتجاجية (لا غزة ولا لبنان)؛ انتقد فيها السياسة الخارجية تجاه هذا المحور التي لم تحقق لإيران أي عوائد اقتصادية مقابل هذا الدعم.
يوسف بدر – النهار