المسيحيّون جرّبوا كل شيء ولم يحصدوا سوى الخيبات: الآخرون يصعدون ونحن نهبط!
تبدو الساحة المسيحية السياسية في لحظتنا الراهنة في حال من انعدام التوازن، وسط مقاربات مختلفة للأزمة الناجمة عن الفراغ الرئاسي من جهة، والخشية على الموقع والدور من جهة ثانية. لكن، هناك حاجة لفهم بعض الأمور عند مقاربة النزعة المستجدة، المؤيدة للفدرالية والتقسيم والانغلاق والتقوقع، لدى قسم كبير من المسيحيين. وهي أفكار تنطق بها شخصيات سياسية وأكاديمية كانت طوال سنوات الحرب الأهلية رائدة في رفض الخطاب الانعزالي ومواجهته.
ولا يمكن فهم هذا كله من دون ربطه بعهد الرئيس ميشال عون. قبله، كان يمكن القول إن المشكلة في الخلل التمثيلي، أما بعده فبات يمكن للمسيحيّين القول إنهم جرّبوا كل شيء؛ السلطة والبقاء خارجها، المواجهة والمصالحة، جرّبوا الأميركي والإيراني، السوري والسعودي وجرّبوا السوري – السعودي… ولم يحصدوا بعد كل هذه التجارب سوى الخيبات. مع شعور إضافي بأنهم دفعوا في السنوات الثلاث الماضية ثمن التصادمات الإقليمية – الدولية، ويمكن أن يدفعوا في السنوات الست المقبلة ثمن التفاهمات الإقليمية – الدولية. وإذا كانت المشكلة في السابق أن هناك مجتمعَين وبيئتَين لا يعرف كلّ منهما الكثير عن الآخر، فإن المشكلة اليوم أنهما يعرفان الكثير عن بعضهما البعض: الصعود في جهة والهبوط في الجهة الأخرى، المؤسسة الاجتماعية المتماسكة في مكان والانهيار الاجتماعي في مكان آخر، فائض القوة مقابل فائض العجز، الحماسة هنا والانكفاء هناك، الاطمئنان مقابل القلق، شعور طرف بأنه ربح كل معاركه وآخر بأنه خسر كل معاركه.
كانت المشكلة سابقاً في التمثيل السياسي للمسيحيين، لكن لم تكن هناك مشكلة في الإدارة اللبنانية والقطاع الخاص والعدلية والاستشفاء والتعليم والمؤسسات، أما اليوم فلم يستثنِ الانهيار شيئاً.
ولا شك أن إحدى المشكلات الأساسية في مقاربة الأفرقاء السياسيين تكمن في عجزهم عن تكوين فكرة حقيقية عما تعنيه عقَدٌ تبدو صغيرة وحتى تافهة جداً، مثل:
– خروج آلاف التجار الجدد في العامين الماضيين، من الطائفة الشيعية، لإثبات أنفسهم بقوة فوق أنقاض الوكالات الحصرية التي كرّس رجال أعمال موارنة نفوذها في البنيان الاقتصادي اللبناني، قبل أن ينضمّ إليهم رجال أعمال سنّة.
– عجز متفاقم بين الفئات المسيحيية عن تأمين أقساط المدارس والجامعات الكاثوليكية الخاصة التي يملأ أبناء الطائفة الشيعية الفراغات فيها ويحولون دون إقفالها بسبب العجز المالي. التدقيق في أعداد الخريجين من كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت في السنوات الأربع الماضية، مثلاً، كشف أن أكثر من ستين في المئة منهم من الطائفة الشيعية، وأربعين في المئة من بقية الطوائف.
– الشعور المسيحيّ بأنه يمكن لحاجز الجيش في أي نقطة لبنانية أن يوقف سيارة ومن فيها لمجرد الاشتباه بتأخّر أحد ركابها عن دفع مخالفة سير، إذا كان من الطائفة المسيحية، فيما سيتجنّب الجندي والضابط المسؤول عنه وجع الرأس الذي سيسبّبه توقيف سيارة ومن فيها حتى ولو كان هناك مذكرات توقيف بحق كل ركابها إذا كان أحدهم من الطائفة الشيعية.
– ما يردّده بعض المحامين الذين لا يدورون في فلك التيار والقوات والكتائب عن الثقة بالنفس التي يتمتع بها المحامي المحسوب على الثنائي الشيعي نتيجة ثقته بنفوذ مرجعياته، فيما لا يجد المحامي المحسوب على القوى المسيحية قاضياً يمكن أن «يستأنس» برأي مرجعياته.
ولم يكن ينقص المسيحيين في هذا السياق العام سوى رؤية فرنسا – فرنسا ما غيرها – تواصل تجاهلها لهم منذ الطائف للانتقال من تحالف ورعاية السنّية السياسية إلى تحالف ورعاية الشيعية السياسية.
أمام هذا الواقع، يتوقف كثيرون عند الانقسام المسيحي التقليدي في ما يخصّ رئاسة الجمهورية. لكن التدقيق في الوقائع يبيّن أن المشكلة أكبر وأخطر، حيث لا يوجد مرشح واحد قادر على التمتع بثقة قلّة قليلة من الرأي العام المسيحي، ويوحي بالأمل، أو قدرته على تحقيق شيء أو تغيير الواقع أو إخراج الناس من النفق. وعندما قرر رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل غضّ النظر عن الترشح، لم يكن يحسب حساباً لرأي نبيه بري أو وليد جنبلاط أو سمير جعجع أو ملحم خلف وكل الذين كانوا ضد ترشيح الرئيس عون أيضاً، توقف عند سؤال العونيّين عن نفع الرئاسة بعد تجربة السنوات الست، ورغبتهم القوية في الخروج من السلطة. وهو ما يقود إلى القول إن رؤساء الأحزاب المسيحية، جميعهم من دون استثناء، غير قادرين على مصارحة جمهورهم بأنهم خاضوا كل ما خاضوه من معارك وفتوحات وحروب لينتهي بهم الأمر بتزكية جهاد أزعور أو عصام خليفة أو زياد بارود أو ميشال معوض أو ناجي البستاني أو سليمان فرنجية أو صلاح حنين لرئاسة الجمهورية.
الأسوأ في المقاربة الشاملة أن هذا المجتمع الذي قطع مع ميشال عون حدوداً سياسية لم يكن يمكن تخيّله يقطعها، لم يعد إلى ما قبل ميشال عون فقط، إنما ذهب أبعد في وضعه كل آماله اليوم على السعودية، وإحلالها محل فرنسا كأمّ حنون، سواء سياسياً لعدم السماح بانتخاب فرنجية رئيساً، أو مرشحاً اقتصادياً ومالياً لإنقاذ البلد، وهو ما يستوجب علاجاً جذرياً للفرضيتَين في حال كان هناك اهتمام حقيقي بما يفكر به هؤلاء اليوم أو مستقبلاً.
غسان سعود- الاخبار