انتصار مجّاني لإيران ولنظام الملالي: حِجاب السفارة.. رؤوسكم ملكٌ لي!
المشهد المريع لصحافيات لبنانيات أُجبرن على ارتداء الحجاب خلال لقاء مع وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في السفارة الإيرانية، يجب أن يكون أبرز خلاصات هذه الزيارة الإيرانية. ففي ذروة السجالات اللبنانية حول صورة لبنان ومعنى لبنان والشعارات، الفارغة معظم الأحيان، المتمحورة حول “يشبهوننا ولا يشبهوننا”، تحضر لحظة “حجاب السفارة” كسؤال أساسي عن النزاهة والصدق وتمثيل الذات وتهيّؤات الهويّة التي نتراشق بها ليل نهار.
ليس صعباً أن أفترض أنّ معظم المحجّبات قصراً، هنّ ممّن تضامن مع الانتفاضة الإيرانية الأخيرة المناهضة للحجاب في إيران، إذ إنّ جزءاً كبيراً منهنّ ينتمي إلى مؤسّسات معروفة الموقف من هذه القضية كما من الهويّة المفترضة للبنان، كما أنّها مؤسّسات معروفة الموقف من الأثر الجلف لمساعي الهيمنة الثقافية الإيرانية على لبنان، أكان من بوّابة شيعته أم من بوّابة اللبنانيين عامّة. مع ذلك اخترن الرضوخ وارتداء الحجاب خلال لقاء مع وزير الخارجية الإيراني، التزاماً بإملاءات السفارة.
خيانة ثورة مهسا أميني
لنرجع لحظة إلى الوراء. لم تكن الانتفاضة ضدّ الحجاب الإلزامي في إيران، والتي انحاز إليها جزء كبير من اللبنانيين ومن الصحافيّات اللواتي حضرن لقاء السفارة، مجرّد اعتراض على قطعة من القماش. كانت احتجاجاً على القهر المنهجي للمرأة، وموقفاً ضدّ الطبيعة القمعية للنظام، وتأكيداً على الحرّيات الشخصية التي تضيق مساحتها في إيران على نحو قاتل.. واجهت الإيرانيات عواقب وخيمة جرّاء موقفهنّ هذا، بما في ذلك الاعتقال والعقاب الوحشي الذي وصل حدّ القتل في حالة مهاسا أميني، لمجرّد خلعهنّ الحجاب في الأماكن العامّة، أو حتى التهاون بمعايير ارتدائه الصارمة التي تحدّدها شرطة الفضيلة.
يفترض أن يكون دعم الإعلاميات اللبنانيات للمرأة الإيرانية، كجزء من حالة التضامن الأوسع في العالم، تأكيداً على إيمانهنّ بقيم الحرّية والمساواة، ورسالة حاسمة أنّه لا يحقّ لأيّ حكومة أو مجتمع أن يملي على النساء ما يمكنهنّ ارتداؤه، وأن يكنَّ صوتاً حاسماً في هذه المعركة الثقافية من أجل احترام حقوق النساء، ومساهمة في مساعي إسماع أصواتهنّ واحترام اختياراتهنّ.
مع ذلك، ها نحن اليوم أمام مشهد السفارة المقزّز، بوصفه فرضاً لا بوصفه حجاباً، وموضوعه إعلاميات لبنانيات قرّرن الخضوع لِما رفضت نساء إيران الخضوع له. إنّ تبرير ذلك باحترام الأعراف الثقافية، أو بالضرورات الدبلوماسية التي تحكم أحياناً عمل الصحافيين في محافل رسمية، يستدعي السؤال التالي: عند أيّ نقطة بالضبط تصبح الدبلوماسية نفاقاً واحترام الأعراف الثقافية مساهمة غير واعية في الجريمة؟
إنّ الخضوع لشرط ارتداء الحجاب يقدّم انتصاراً مجّانياً للجمهورية الإسلامية لإيران، ولثقافة نظام الملالي، على الرغم من الاعتراض والتذمّر الدائمين من مساعي إيران لتعميم هذه الصورة على جزء من المجتمع اللبناني.
“سلام يا مهدي”
من قَبِلن الخضوع لسياسة ارتداء الحجاب، لم يرتدين الحجاب فقط. لقد وضعن على رؤوسهن رمزاً سياسياً يمثّل الاضطهاد الذي يقفن ضدّه ويناضلن من أجل إنهائه.
فكيف لمن اعترضوا على نشيد “سلام يا مهدي”، الذي يمجّد ثقافة خمينية ويعلي من مراتب شخصيات عسكرية وميليشياوية موغلة في دماء اللبنانين، أن يقبل على نفسه ارتداء الحجاب، لأنّ ثمّة من يستطيع أن يفرض عليه هذا الأمر؟ المسألة تتّصل بتدنّي مستوى المناعة الذي تتمتّع به الحالة اللبنانية المعترضة على إيران وسهولة وقوعها في فِخاخ الماكينة الأيديولوجية لحزب الله ورعاته، وتفضح الكثير من الأعطال الفكرية والثقافية والسياسية التي تشوب هذه الفئة من اللبنانيين.
إنّ لحظةً كلحظة “حجاب السفارة” قادرة على تقويض موقف التضامن الذي بُني بين لبنانيين وإيرانيين يرفضون الاقتتال الأبدي ويتطلّعون إلى مستقبل مشترك يقوم على مرتكزات الحداثة وقيم الحرّية. وهي لحظة توهن أسس الموقف الأشمل ضدّ ما يمثّله النظام الإيراني في لبنان عبر الحالة الميليشياوية الشاذّة التي اسمها حزب الله.
إنّ معركة الدفاع عن “لبنان الذي نريد” و”لبنان الذي يشبهنا” لا تحتمل الانتقائية والتبرير، بل تتطلّب الكثير من الانسجام مع النفس والالتزام القيميّ والشجاعة السياسية للوقوف بجانب ما نعتقد أنّه الصواب، حتى عندما يكون ذلك غير مريح، بل تحديداً عندما يكون ذلك غير مريح.
إنّ مواجهة إيران في لبنان والكفاح من أجل هويّة لبنان الديمقراطية والتعدّدية والتي لا يُفرض فيها على الناس ماذا يلبسون أو يأكلون، ليست مواجهة تُكسب بإيماءات فاترة أو سلوكيّات متناقضة.
لماذا أصرّت السفارة على الحجاب؟
الحزم في الموقف، والوضوح في الرسائل، والتماسك في الفعل السياسي والإعلامي، يقع في صلب المعركة من أجل لبنان، لا سيما في زمن السوشيل ميديا وصناعة الهويّات والصور والانطباعات. لا حاجة إلى تذكير الزميلات بأنّ أفعالنا يتردّد صداها على نطاق واسع في العالم، وإلا لما أصرّت السفارة على الحجاب. فهي سجّلت موقفاً ينسجم مع سعيها إلى شرعنة قرارها بقمع الشعب الإيراني، وتأكيد هيبتها على اللبنانيين، وأظهرت مواقف اللبنانيين المعترضين عليها بصورة التناقض والارتباك.
من بيروت، وعبر إلزام صحافيات لبنانيات بالحجاب، بعثت السفارة للنساء في إيران برسالة صاخبة وواضحة: “أنتنّ وحدكنّ في هذه المعركة، وكلّ من دعمكم سيترككم عند أوّل منعطف”.
لقد أُتيحت للوسط الإعلامي اللبناني فرصة أن يُظهر للعالم أنّ اللبنانيين جادّون في معركتهم الثقافية دفاعاً عن هويّة بلدهم ضدّ ما يحاك في وجهها. بدلاً من ذلك، انتصرت المجاملات على التمسّك بالمبدأ، وانتصر الانحسار للراحة على النزاهة المكلفة.
“حجاب السفارة” يشبه صواريخ “حماس” التي أُطلقت من لبنان قبل أسابيع، ويشبه الكلام الفوقيّ الذي تتفوّه به نخبة العصابة المسلّحة، أن اقبلوا بالمعروض عليكم الآن في الرئاسة كي لا تقبلوا ما هو أصعب لاحقاً، ويشبه إدمان اللبنانيين على التسوية السياسية مع ماكينة القتل تحت عنوان السلم الأهلي.
ثمّة من قال عبر “حجاب السفارة” إنّه يحتلّ البلاد، وثمّة من أهدر فرصة ثمينة ليقول له “لا” باسم لبنان الذي نتشدّق كلّ لحظة بمواصفاته وملامحه وقيمه.
نديم قطيش- اساس