مهارة بارعة في الافتراس: “استراتيجية العنكبوت” الإيرانية في زيارة عبد اللهيان الى لبنان !
“استراتيجية العنكبوت” الإيرانية في زيارة عبد اللهيان الى لبنان
الجديد في توجه الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الاتفاق الثلاثي بينها وبين السعودية والصين هو تبنيها “استراتيجية العنكبوت” لتنسج شبكاتها شبه الخفية بخيوط تبدو ليّنة ورقيقة وشفّافة، إنما لها قوة فولاذية ومهارة بارعة في الافتراس. زيارة وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الى لبنان هذا الأسبوع تركت دلالات على العزيمة الإيرانية للاستمرار في تدعيم حليفها الذي يعلن لها الولاء أولاً، “حزب الله”، إنما مع تكتيك سياسي يوحي بأن طهران تتواصل مع أركان الدولة اللبنانية وأحزاب فاعلة وأعضاء في مجلس النواب تقديراً للعملية الديموقراطية اللبنانية.
انهاء زيارة عبداللهيان التي شملت، الى جانب اجتماعاته بالمسؤولين الرسميين، لقاء نصرالله بزيارة الى الجنوب على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية بلا استئذان مسبق من السلطات اللبنانية إنما هو شاهد على تماسك واستمرارية السياسة الإيرانية نحو لبنان وقوامها: عدم الاعتراف بالسيادة اللبنانية، عدم التخلي عن ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”، عدم التفريط بالحليف الميداني والإقليمي والاستراتيجي أي “حزب الله” بسلاحه وعقيدته واعتماده الذراع الأساسي للنظام في طهران ولمشاريعه الاقليمية.
المسؤولون الإيرانيون لا يستأذنون زياراتهم الى لبنان. فهم يحضرون اليه بلا دعوة مسبقة ويبلّغون المسؤولين في الحكومة اللبنانية أنهم آتون. وهذا ما حدث عندما قرر وزير الخارجية الإيراني زيارة لبنان للمرة الأولى منذ لقاءاته مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود تطبيقاً للاتفاق الثنائي بضمانات صينية. وللتذكير، بين أبرز بنود ذلك الاتفاق الالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة واحترام سيادة الدول.
المنطق الإيراني اعتمد العرض الموسّع للاتفاق بتشديد على اليمن أولاً، حيث أبلغ عبد اللهيان الى مسؤولين لبنانيين اجتمع بهم أن طهران مستعدة للمساعدة في حل ملف اليمن وكأنه يبعث برسالة مفادها أن السعودية لها أولويات، وإيران تتجاوب معها في اليمن. أما في القضايا الأخرى كلبنان، فلم يتقدم الوزير الإيراني بأي إيحاء لمساعدته فعلياً في حل مشاكله التي هي أساساً ناتجة من مواقف حليفه “حزب الله”، إن كان لجهة التمسك بالسلاح الإيراني ليكون دولة داخل دولة يتلقى تعليماته من طهران، أو لجهة التأثير في حليفه الآخر الرئيس السوري بشار الأسد ليتعهد بعودة آمنة للاجئين السوريين الى بلادهم بدلاً من عزمه على استخدام جزء منهم محرّكاً للفتنة والاحتقان في لبنان.
ما سعى وراءه الوزير الإيراني هو تسويق استعداد بلاده لتقديم هبة نفط والمساعدة في تأمين الكهرباء للبنان وهو يعلم جيداً أن لبنان غير قادر وغير راغب -بجزء كبير منه- أن يكون عرضة للعقوبات الأميركية التي ستنزل عليه إذا ما خرق العقوبات المفروضة على إيران.
حاول عبد اللهيان تحريض المسؤولين اللبنانيين على انتهاك العقوبات الأميركية مستغلّاً الوضع الكارثي للاقتصاد اللبناني الناتج من فساد كامل طبقته الحاكمة المستبدّة بمصيره والتي تشمل -ولا تقتصر على- حليفيّ إيران، الثنائي الشيعي “حزب الله” و”أمل”.
المحطة اللبنانية في تحرك الوزير الإيراني في الدول العربية أتاها ليشدد على أن إيران لاعب إقليمي بامتياز يقرر هو مَن يساعد ومتى، لذلك كرّر في لقاءاته أنه في حال تعثّر تعاون الحوثيين مع السعوديين في حل مشكلة اليمن، فإن إيران جاهزة للتدخل لإقناع الحوثي بما يتطلب الأمر.
أما في ملفات لبنان، فتصرّف عبد اللهيان وكأنه يحترم استقلالية “حزب الله” وتمسك “الثنائي الشيعي” بترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية للرئاسة اللبنانية برغم المعارضة الواسعة له ولإصرار “الثنائي الشيعي” على إملاء رئيسٍ مسيحي وسط معارضة مسيحية كبرى. رسمياً أبلغ عبد اللهيان المسؤولين اللبنانيين أن ما يهمّ إيران هو أن ينتخب اللبنانيون رئيساً ويتم تكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة كي يستعيد لبنان الحياة الطبيعية. عمليّاً، لم يكشف الوزير الإيراني أوراقه الخفيّة أو أوراق حليفه عمّا إذا كانت ورقة الرئاسة قابلة للمساومة لأن الورقة الأهم هي كيفية تدعيم “حزب الله” لبنانياً وسورياً في خضمّ المفاوضات مع السعودية حول أدوار “حزب الله” الإقليمية.
بين المحطات اللافتة في زيارة وزير خارجية إيران هي عقده اجتماعاً في السفارة الإيرانية دعا اليه كتلاً نيابية واستبعد كتلاً أخرى، في محاولة للظهور بأن الدبلوماسية الإيرانية الجديدة تريد التواصل مع اللبنانيين على الصعيدين البرلماني والاجتماعي، وممثلي الشعب. لم يكن اللقاء موفقاً، بل أتى ليكشف وهناً جذرياً انطلاقاً من تأكيد عبد اللهيان لدى وصوله إلى مطار بيروت فرض طهران ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” والتي تلغي فعلياً صلاحية الدولة في بسط سلطتها على كامل أراضيها، وتلغي حق المشرّعين في الاعتراض الفعلي على الإملاء الإيراني بإقحام المقاومة على سيادة الدولة وعلى الشعب.
ظاهرياً، يريد النظام في طهران أن يبدو معتدلاً في تأثيره على أداء أذرعه، بما في ذلك تلطيف النبرة الثوريّة ولهجة التهديد والاستقواء، مع تعميق الاندماج السياسي، وان كان سطحياً. “حزب الله” مثال مهم للتفكير الجديد في طهران حيث تُطبّق “استراتيجية العنكبوت” التي تفتك أنثاه بفريستها عبر البدء بغزل الخيوط داخل شبكة العمل والانتهاء باحتفاظ فرائسها حيّة، لكي تبقى طازجة.
فالذين يراهنون على تملّص الجمهورية الإسلامية الإيرانية من “حزب الله” أو على تفكيك شبكته الداخلية والخارجية بقرار من طهران، إنما يستعجلون وربما يخطئون جذرياً في قراءة الفكر الاستراتيجي للنظام.
كذلك الأمر في ما يتعلق بسوريا والعلاقات المتينة بين النظامين الإيراني والسوري والتي يأمل البعض بأن تتفكك لأسباب منطقية، أبرزها، حاجة الأسد الى استعادة نفوذه وسلطته في بلاده بدلاً من الخضوع للسيطرة والهيمنة الإيرانية، إضافة الى استفادته من إعادة البناء بأموال عربية إذا اتخذ قرار فك الارتباط. لكن فك الارتباط بإيران أو بـ”حزب الله” ليس سهلاً لأنه قد يكون مكلفاً كلفة باهظة لبشار الأسد نفسه، رئيساً ونظاماً وشخصاً. وهذه أمور تؤخذ حقاً وجدّاً في الاعتبار.
ثم إن الرئيس السوري محنّك أساساً، استفاد من دروس الحنكة الإيرانية، ومن تجربته مع “حزب الله”، ومن الخبرات العسكرية الروسية ودخول موسكو حليفاً مباشراً له في حربه الطويلة. بشار الأسد لا يسامح بسهولة، ولا يتأقلم قبل أن يضمن ثمناً غالياً لصالحه، ولا يتنازل عندما تكون في قبضته ذخيرة.
اللاجئون السوريون في لبنان مثال يجب التدقيق فيه ومراقبة كيفية التعامل معه على ضوء المصالحات العربية مع النظام في دمشق. الأسد مرتاح طالما أن ما يدعى بـ”الأسرة الدولية”، أي الدول الغربية والوكالات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، تتبنى حملة تأهيل اللاجئين في لبنان وتريحه من كلفة عودتهم على الاقتصاد السوري.
بشار الأسد لا يريد عودة المليوني سوري الذين تعيلهم الأسرة الدولية وتريحه من الثقل السياسي لبعضهم عليه. بل أكثر، إن الرئيس السوري مخضرم في استخدام أدوات الفتنة والتفجير الأمني في لبنان- وما يؤسف له هو أن جزءاً من اللاجئين أو النازحين السوريين في لبنان يؤهّلون في لعبة خبيثة ليتحولوا الى جيش استخباري والى “طابور خامس” تحت تصرّف الأسد ومشاريعه للبنان.
الرئيس السوري ليس وحده المسؤول من محنة اللاجئين السوريين، وإنما أيضاً “حزب الله” الذي ساهم جذريّاً في تهجيرهم ونسف قراهم ومنع عودتهم الى القرى التي فرّغها من سكانها الأصليين وحوّلها الى قرى شيعية. الأمم المتحدة مسؤولة لأنها تتصرّف بغباء البيروقراطية بدلاً من التنبّه الى مخاطر ما تفعله في لبنان عبر وكالاتها، وبالذات مفوضية اللاجئين والبرنامج الغذائي وغيرهما.
الدول الأوروبية تصرّ على عدم عودة اللاجئين السوريين الى بلادهم إلا بعودة آمنة، لكنها لا ترفع إصبعاً للضغط على الحكومة السورية لتأمين العودة الآمنة. ذلك لأن الدول الأوروبية لا تريد أن ترث تدفّق اللاجئين السوريين اليها، فتكتفي بالتظاهر أنها تُدفِق الأموال عليهم لأسباب إنسانية فيما الحقيقة هي أن أوروبا لا تريد اللاجئين السوريين أو السودانيين أو الليبيين- فعنصريتها هي الأوضح وليس العنصرية اللبنانية.
الأمم المتحدة ووكالاتها والمنظمات غير الحكومية والدول الأوروبية مطالبة بالعودة الى طاولة رسم الاستراتيجيات للتدقيق في كلفة اللجوء والنزوح السوري على اللبنانيين ولتفادي المساهمة في فتنة وتفجير أمني ستكتفي بإدانته لاحقاً. حان الوقت لليقظة- يقظة في التفكير ويقظة في الضمير.
كل هذا لا يخفي الفشل الذريع للبنان، حكومةً وأحزاباً وأفراداً، في التعامل مع أزمة اللاجئين السوريين الذين قرر لبنان الإشارة اليهم بصفة النازحين علماً أن النازح ينزح داخل حدود دولته واللاجئ يعبر الحدود الى دولة أخرى، بموجب تعريف الأمم المتحدة.
الشعب اللبناني استضاف اللاجئين السوريين أفضل استضافة باعتراف الأمم المتحدة وتلك الأسرة الدولية والمنظمات غير الحكومية التي يستفيد موظفوها من أزمة اللاجئين ويكسبون الأموال الباهظة قياساً مع مدخول اللبناني الضئيل. سمعة العاملين في هذه المنظمات سيّئة للغاية أيضاً نتيجة تعاليهم عن الاستماع الى المعاناة الشعبية اللبنانية بشقها المتعلّق بأرقام وممارسات أولئك اللاجئين المستفيدين من المعونات والمتسلطين على الأراضي المشاع والعاملين في التهريب والمستغلين لصفة النازح أو اللاجئ والذين يولدون الأطفال للاستفادة المادية أو لتشغيلهم في الشوارع كمتسولين ويعرضونهم للإهانة والخطر.
ما يحدث في لبنان اليوم يتطلب يقظة عربية كي لا يتحوّل السوريون في لبنان الى وضع اللاجئين الفلسطينيين الذين أصبحت عودتهم الى فلسطين شبه مستحيلة. بل إن إعادة السوريين الى بلدهم ستكون أصعب ما لم يتم وضع استراتيجية متكاملة، إقليمية ودولية، لمعالجة شتى عناصر هذه الأزمة.
الحدود اللبنانية – السورية عنصر فائق الأهمية ليس فقط من ناحية ضرورة ضبط التهريب وإنما أيضاً لجهة الضرورة القصوى لترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وسوريا. إغلاق الحدود إجراء ترفضه أطراف لبنانية عديدة من بينها “حزب الله” الذي لا يزال متواجداً عسكرياً داخل سوريا- وهنا المفارقة السوريالية، والتي تعيدنا جزئياً الى مساهمات الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الأزمتين السورية منها واللبنانية.
ليت التفاهمات السعودية – الإيرانية بضمانات صينية تتطرق بسرعة الى السياسات الإيرانية الضّارة بلبنان وبسوريا قبل أن يتحول الاحتقان الى كارثة حرب على الساحة اللبنانية. إن مسألة اليمن ذات أولوية أمنية للسعودية ولذلك ترفعها طهران رايةً للتعاون كإثبات على حسن أدائها إقليمياً. هذا ليس كافياً لا سيما أن ما تصوغه طهران هو “استراتيجية العنكبوت” وتحيك شبكاتها الخفية.
راغدة درغام- النهار العربي