العليّة: أسقط 3 “صفقات” في 9 أشهر.. والانتصار الرابع على الطريق آتٍ!

لم يشفع الإفلاس لمرافق الدولة ويبعِد عنها شبح الصفقات، ولم يردع الانهيار عشّاق السمسرة عن الاستمرار بالتعدّي على المال العامّ. وواقع الإدارات العامة بعد دخول قانون الشراء العامّ حيّز التنفيذ في 29 تموز 2022 ليس كما كان قبله. وإذا كنا ما زلنا نسمع بالصفقات الكبرى، فإننا نواجه وقاحة مرتكبيها، وأبطال المواجهة ثلاثة: الإعلام، الرأي العام الحرّ، وهيئة الشراء العامّ.

يؤكّد رئيس هيئة الشراء العامّ جان العلّية أنّ المشهد تغيّر في لبنان، والسبب يعود إلى التطوّر الإيجابي في التشريع، قائلاً إنّ “النصّ القانوني له الفضل في أنّه سمح لإدارة المناقصات التي أصبح اسمها هيئة الشراء العامّ بأن تدخل أماكن ما كان بإمكانها دخولها، كإدارة المناقصات. فقانون الشراء العامّ أخضع جهات لم تكن خاضعة بالسابق للرقابة. وهي جهات تنفق على مشترياتها مالاً عامّاً مرتبطاً بشكل أو بآخر بموازنة الدولة”.

تعديلات قانون الشراء العامّ

تُضاف إلى هذا التطوّر الإيجابي التعديلات التي أُقرّت الثلاثاء الماضي في مجلس النواب، والتي تعزّز الشفافية وتسهِّل تطبيق القانون على الجهات الشارية، وبالأخص البلديات، كما يؤكّد علّيّة في مقابلة مع “أساس”. ومن أبرز هذه التعديلات وأكثرها إيجابية أنّ الجهات المتعاقدة مع الإدارة أصبحت ملزمة بالتصريح عن صاحب الحقّ الاقتصادي، وهو المستفيد النهائي، أو المالك الحقيقي للشركة. وهذا يعني أنّنا اليوم نسجّل شركة في السجلّ التجاري باسم فلان، لكنّ هذه الشركة تكون مملوكة من شركة ثانية يملكها X، وشركة ثالثة يملكها Y وZ، وذلك لإخفاء هويّة المالك الحقيقي الذي عادةً ما يكون الانطباع بأنّه رجل سياسي أو يرتبط بمسؤول سياسي بصلة قرابة أو شراكة مالية.

يُنتظر أن يُنشر خلال أسبوعين القانون الذي يعتبر عليّة أنّ إقراره بالصيغة التي اطّلع عليها (صيغة النائب جهاد الصمد) سيكون إنجازاً يضع لبنان بين عدد قليل من الدول التي تلزِم من يتعاقد مع الإدارة بالتصريح عن صاحب الحقّ الاقتصادي: و”هذه خطوة متقدّمة وإيجابية جدّاً”، وفق ما يرى عليّة.

سيُصدر رئيس هيئة الشراء العامّ عند نشر القانون مذكّرةً يطالب فيها كلَّ الجهات التي تتعاقد مع الإدارة بالتصريح عن صاحب الحقّ الاقتصادي للتدقيق بصحّة مستنداته واتخاذ المقتضى بشأن التصاريح الكاذبة، إضافة إلى تعديلات أخرى صغيرة متعلّقة بالموظّفين وكيفيّة تشكيل اللجان لعدم شلّ اللامركزية.

في هذا الإطار يؤكّد عليّة أنّ معركة هيئة الشراء مستمرّة وطويلة: “صحيح أنّ إمكانيات الهيئة متواضعة، لكنّ الإرادة موجودة والهدف أن يُطبّق القانون، ولو على مراحل، على كلّ الجهات الشارية”. ويتابع: “لا قدرة للهيئة بما لديها من كادر حالياً أن تراقب كلّ التفاصيل المتعلّقة بالمشتريات والفواتير والأشياء النثرية، لكنّ هذا لا يعني أنّ هذه المستندات لم يتمّ التدقيق بها، وستكون هناك خطّة للتدقيق ولو على مراحل”.

الصفقات الكبرى

هناك عدد منها أُسقطت أو تغيّر مسارها وهي مخالفة لقانون الشراء العامّ في الفترة الماضية:

– مناقصة السوق الحرّة في مطار بيروت: في تشرين الثاني من العام الماضي، أُعيد تلزيم السوق الحرّة بعد اعتراض هيئة الشراء العامّ على تسعيرها بالليرة، والتزمت وزارة الأشغال بتوصية هيئة الشراء العام وأعادت تلزيمها بالدولار، الأمر الذي أدّى إلى تجنّب ضرر كبير كان سيلحق بالمال العامّ، وسيعود التلزيم الجديد على خزينة الدولة بعد تصحيح مجراه بحوالي 60 مليون دولار سنويا، بين قسط ثابت ومتغيّر لمدّة أربع سنوات. وأصدرت هيئة الشراء العام بعد هذه المناقصة توصية بضرورة أن يكون بدل الخزينة بالعملة الأجنبية أو وفقاً لمعادلة ماليّة في كلّ المزايدات التي تعود بالأموال على خزينة الدولة.

– مناقصة تلزيم مبنى المسافرين 2 في مطار بيروت: كانت هيئة الشراء العام أوّل المعترضين على صفقة تلزيم المطار، وخاضت معركتها مع الإعلام واللجان النيابية لإسقاط صفقة الفساد بالتراضي التي كانت ستبيع مبنى المسافرين رقم 2 في مطار بيروت الدولي لربع قرن، إلى أن تراجع عنها وزير الأشغال علي حمية في 30 آذار الماضي، قبل اجتماع اللجنة النيابية للأشغال العامّة والنقل والطاقة والمياه في اليوم نفسه، وتوصيتها بإلغاء العقد كليّاً، وترحيله بطبيعة الحال إلى ما بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة. وجاء تقرير ديوان المحاسبة في 19 نيسان الجاري ليؤكّد رأي هيئة الشراء العامّ، وتوصيات اللجنة النيابية، وضرورة تطبيق قانون الشراء العامّ، ولا سيّما المبادئ الواردة في المادّة الأولى منه، وبالأخصّ المنافسة والعلنيّة والمساومة والشفافيّة، وأنّه لا يمكن توقيع عقود كهذه في ظلّ حكومة تصريف أعمال لأنّها تتضمّن أعمالاً تصرّفية وتلزِم الدولة لفترة طويلة، وغير ذلك من الخلاصات التي أكّدت صوابية المعركة ضدّ هذه الفقرة .

– مناقصة البريد: في مطلع نيسان الجاري كان للبنان موعد مع صفقة جديدة مخالفة لقانون الشراء العام، وهي المزايدة العمومية لتلزيم الخدمات والمنتجات البريدية التي أجرتها وزارة الاتصالات، والتي أشار تقرير هيئة الشراء العام المتعلّق بها إلى مجموعة شروط غير متوافرة في تحالف الشركتين الفائزتين بالمناقصة “Merit invest وColis Privé” (الأولى لبنانية مملوكة من رودولف سعادة صاحب شركة CMA-CGM للنقل البحري التي التزمت تشغيل مرفأ بيروت، والثانية فرنسية لديها رخصة توزيع بريد). وأوّل هذه الشروط أنّ لجنة التلزيم أخطأت في قبول عرض لا ينطبق على أحكام القانون. سقطت المناقصة المخالِفة والمجحفة بحقّ المال العام بعدما أطال وزير الاتصالات جوني القرم التهليل في الإعلام بأنّها ستعود على الدولة بـ 15.5% من الإيرادات. لكنّ تقرير الهيئة أوضح أنّ هذه النسبة هي من أصل الأرباح لا الإيرادات، وهي الثغرة التي كان من الممكن أن تستغلّها الشركة لاحقاً للتلاعب بالأرباح، وبالتالي بحصّة الدولة من العقد. ونجح رئيس هيئة الشراء العام بإقناع الوزير قبل نحو أسبوع بالخلل الواقع في العقد الذي من شأنه أن يلحق الضرر بالمال العام في حال تنفيذه بهذه الطريقة، وتمّ الاتفاق على الإعلان مجدّداً عن المزايدة. وتمنّت هيئة الشراء على الوزير التواصل مع وزارة الخارجية لتكليف السفارات اللبنانية بالإعلان عن المزايدة وعدم الاكتفاء بالإعلان عنها على الموقع الإلكتروني للهيئة فقط. وينتهي عقد الشركة الحالية “ليبان بوست” في 30 أيار المقبل، ويُنتظر أن يعيد وزير الاتصالات تنفيذ دفتر الشروط بعد تعديل النقاط الخلافية قبل ذلك التاريخ، وإلّا تكمل الشركة الحالية عملها بحكم استمرارية الأمر الواقع إلى حين إجراء المناقصة من جديد.

الانتصار الرابع آتٍ

– عقد ألعاب الميسر في كازينو لبنان: ثلاثة انتصارات سُجّلت لقانون الشراء العام في 9 أشهر، ومن المنتظر تحقيق انتصار رابع يؤخّره التعنّت العوني، وتمرّد إدارة كازينو لبنان على القانون والهيئات الرقابية (ديوان المحاسبة، هيئة الشراء العام) وعلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أيضاً الذي أوعز إلى إدارة الكازينو عبر وزير المالية بتسليم العقد والمستندات المطلوبة للهيئات الرقابية المعنيّة. في التفاصيل، وفق ما علم “أساس”، أنّ هيئة الشراء العام طالبت إدارة الكازينو منذ تشرين الثاني من العام الماضي بالخضوع لقانون الشراء العام، مثلها مثل الشركات التي تخضع لهذا القانون. لكنّ إدارة الكازينو لم تتجاوب إلا شفهياً مع هذا الطلب، وجاء عقد ألعاب الميسر ليزيد طين تمرّد الكازينو على القانون بلّة. إذ يرفض رئيس مجلس إدارة الكازينو منذ أكثر من 3 أسابيع حتى اليوم تسليم العقد والأوراق المطلوبة لرئيس الهيئة أو ديوان المحاسبة لتدقيقها، ويصرّ على أنّ هذا العقد بدأ قبل دخول القانون حيّز التطبيق في عام 2020. لكنّ المفارقة أنّه وُقّع في تشرين الأول من عام 2022، وهو ما يثير أصلاً الشبهات في هذا العقد. وقد علم “أساس” أنّ هيئة الشراء العام، في إطار ممارسة صلاحياتها، وفي حال عدم التزام إدارة الكازينو، ستطلب تغريم الجهات الشارية عملاً بأحكام الفقرة 3 من المادّة 112 من القانون من خلال ديوان المحاسبة، وستتمّ المطالبة بالحدّ الأقصى من الغرامة. وتقول هذه المادّة: “يفرض ديوان المحاسبة عفواً أو بناءً على طلب هيئة الشراء العام الغرامات بحقّ الجهات الشارية، ويلزمها بدفع غرامة مالية تراوح ما بين 20 ضعف و200 ضعف الحدّ الأدنى للأجور النافذ بتاريخ المخالفة”.

ستكون هذه الغرامة البداية لعدّة خطوات يضمنها القانون لهيئة الشراء العام في حال عدم تجاوب إدارة الكازينو، التي لو كانت “مغرمة بالقانون”، كما يدّعي مديرها، لكانت نشرت العقد على الموقع الإلكتروني للكازينو، لأنّ أضعف الإيمان نشر العقد.

يعلّق العليّة على هذا الموضوع في حديثه إلى “أساس” بالقول: “القانون سيطبّق على كلّ الجهات الشارية الخاضعة لقانون الشراء العام. ونحن متساهلون نظراً للظروف الحالية التي يمرّ بها البلد. لكنّ الهيئة ستمارس صلاحيّاتها كاملة لفرض تطبيق القانون، وعلى الكازينو أن تقلع إدارته عن سياسة المماطلة وتضييع الوقت التي لن تفيدها بشيء”.


نهلا ناصر الدين- اساس

مقالات ذات صلة