“النار بالنار” يذكي الصراع اللبناني السوري رغم النية الطيبة

لا شك في أن مسلسل “النار بالنار” هو أهم عمل درامي يتناول العلاقة الشائكة بين اللبنانيين والسوريين، خصوصاً النازحين غير الشرعيين منهم إلى لبنان، أو الموجودين فيه تحت غطاء شبه شرعي. طرح المسلسل هذه العلاقة بجرأة وصدق وكسر معظم “التابوهات” السياسية و”العنصرية” التي تعتريها، حتى إن المخرج محمد عبدالعزيز جعل الممثل عزيز (جورج خباز) يرفع لافتة تدعو السوريين في الحارة إلى عدم الخروج بعد الثامنة ليلاً من أماكنهم، مما يلقي عليهم “تهمة” جاهزة سلفاً، ويحملهم مسؤولية ما يحصل من سرقات أو جرائم أحياناً.

لم يبالغ المسلسل في كشف النزعة “العنصرية” اللبنانية إزاء السوريين، لكنه قاربها بحذر، جاعلاً أحد السوريين المتلبننين يرسخ الفساد الذي يسم بعض اللبنانيين والسوريين معاً، بل هو ارتأى كسر “العنصرية” هذه مختلقاً قصة حب بين خصمين لدودين، هما: عزيز، المواطن الحاقد على السوريين وعلى النظام السوري الذي خطف أباه على حاجز في الشمال اللبناني، ومريم (كاريس بشار) التي خطف النظام زوجها في سوريا فهربت إلى لبنان فاقدة هويتها وأوراقها، وهي بدت جريئة في مهاجمة العنصرية اللبنانية ومواجهة عزيز الذي كرهته بدءاً وتخاصمت معه وانتقدت سلوكه متهمة إياه بالفرنسية والفينيقية (النزعة الفينيقية)، وأخذت عليه الخطأ اللغوي الذي ارتكبه في الجملة التي كتبها ضد السوريين في اللافتة التي علقها وسط الحي.

الحارة المفتوحة

حاول المسلسل أن يجعل هذا الحي أو هذه الحارة الفقيرة جداً مختصر الأحوال السيئة والأوضاع المتردية التي يعيشها اللبنانيون والسوريون أنفسهم اجتماعياً وإنسانياً وأمنياً، في ما يسمى مناطق “أحزمة البؤس” وهي صارت كثيرة: الفقر وانقطاع الكهرباء والفوضى والتفلت الأمني وتزوير جوازات السفر وتهريب المازوت وفضائح السوشيال ميديا والاتجار بالكلى والأعضاء البشرية واقتحام البنوك للحصول على الإيداعات المسروقة وقوارب السفر الذي يعني الموت… علاوة على مشكلات أخرى مثل تزويج القاصرات والدعارة والمقامرة والتحرش واستعباد المرأة باسم الدين… حضرت في هذا الحي أيضاً الأصولية الإسلامية الخطرة ممثلة في شخص الإرهابي زكريا (طوني عيسى) وهو الغريب القادم إلى الحي لترويج دعوته سراً وإغراء المسلمين للالتحاق بصفوف الأصوليين، ونشر الرعب عندما يقتضي الأمر. إذاً بدت هذه الحارة كأنها تمثل مناطق عدة من لبنان تم حصرها في مربع صغير جداً.

ولعل الخطأ الأساسي الذي ارتكبه صناع هذا المسلسل هو اختيار هذا الحي المفتوح على أقصى أحوال الفوضى والفساد والتفلت الأمني، في منطقة برج حمود التي تقع في طرف بيروت الشرقية، والمعروفة بهويتها الأرمنية بل “الطاشناقية”. وكان ممكناً ألا يسمي “المختار” وهو أحد أشخاص المسلسل هذه المنطقة علناً في أحد المشاهد، فتظل مجهولة في المعنى الجيوسياسي، وغير محددة الانتماء، لكن “المختار” تحدث عن نفسه بصفته أحد مختاري برج حمود وذكر المشاهدين بجزء من تاريخها وأن الشاعر المعروف جداً بشارة الخوري أو “الأخطل الصغير” (غنى محمد عبدالوهاب وفيروز من قصائده) كان رئيساً لبلديتها خلال سنوات، هذا خطأ جغرافي وسياسي جسيم. وإذا كانت برج حمود تضم لبنانيين كثيرين ولاجئين سوريين فهي تظل أولاً وأخيراً “عرين” الأرمن، وقد تدفق عليها سيل من النازحين الأرمن (المسيحيين) السوريين، وتم إيواؤهم وتدبير أحوالهم، وإيجاد فرص عمل لهم.

لم يظهر في المسلسل سوى شخص أرمني سوري نازح، يعمل في محل ميكانيك، وأطل بسرعة كأنه طيف. أخطأ المخرج والكاتب في مثل هذا التهاون حيال الهوية الأرمنية للحي أو الحارة التي لا تغيب عنها أعين حزب “الطاشناق”، ويستحيل أن تتحول إلى ساحة للمواجهات السياسية والعسكرية وللجرائم والموبقات والسرقات، ويصعب أن يبرز فيها “قبضاي” سوري لبناني (مسلم) فيصول ويجول ويحكم أهل الحارة بقسوة.

مبالغات مشهدية

لكن هذا الخطأ وبعض المبالغات الأخرى (أكداس الدولارات المخبأة والاتجار النافر بالكلى والمراجع الزعيمية السياسية المضخمة والبحث المفضوح عن المخطوفين اللبنانيين في سوريا وسهولة أعمال الخطف والقتل والاعتداء وظهور طيف ابن عربي العلامة الصوفي الكبير والحجاب بزيه السوري…) لم تحل دون نجاح المسلسل نجاحاً قوياً، سواء من ناحية القضية الشائكة والمعقدة التي يعالجها، أم من ناحية التمثيل والإخراج واختيار الشخصيات القوية والمعبرة والحقيقية حتى وإن وقع بعضها في النمذجة. ويمكن القول إن “الورشة الكتابية” التي تولت صياغة القصة التي ألفها الكاتب المعروف رامي كوسى كما ورد في الجنريك، سمحت لبعض الممثلين أن يشاركوا في كتابة بعض الحوارات وفي رسم ملامح بعض الشخصيات، ومنهم الممثل جورج خباز الذي بدت جمله وتعابيره واضحة، وكذلك الممثل طارق تميم الذي تمكن من بناء شخصية جميل على طريقته مستعيداً بعضاً من قسمات المخرج الراحل زياد أبوعبسي وأفكار زياد الرحباني اليسارية ورؤيته العبثية لفكرة لبنان. وقد شاع في الإعلام ووسائل السوشيال ميديا احتجاج الكاتب رامي كوسى على ما جرى من تبديل أو تشويه في نصه الدرامي الأساسي.

وفي جريرة الكلام عن الشخصيات والممثلين، فمن الممكن الكلام عن التمثيل كواحد من أقوى عناصر المسلسل. لقد تمكن الممثلون فعلاً من منح المسلسل قوة وفرادة درامية وبدا أداؤهم الوجه الآخر لقوة الإخراج الذي تولاه محمد عبدالعزيز والتصوير الذي أداره كمال بونصار. ولا بد من البدء بالممثل السوري عابد فهد الذي أدى هنا واحداً من أدواره المتينة، مانحاً شخصية عمران، المرابي السوري الأب واللبناني الأم، ملامح القسوة والعنف المجازي والحقيقي والرقة بخاصة عندما يقع في حب مريم. فاسد ومخاتل، يتاجر بكل ما يتاح له ومتحكم بكهرباء الحي ومتواطئ مع عصابات التهريب ويدير عصابة ويفتح وكراً للمقامرة ويدير الفتيات ويدين بالفائدة ولا يرحم من لا يفي دينه ولا يتوانى عن ارتكاب الجرائم. جسد فهد هذه الشخصية ببراعة وغنى وعمق، حتى جعل المشاهدين يكرهونه كشخصية جمعت بين الفساد اللبناني والسوري، ويعجبون به كممثل يسيطر على كل أدواته، الصوت والوجه والحركة والسلوك، ويعيش اللحظة تلو اللحظة بدقة وعفوية في آن واحد.

عزيز والموسيقى

وفي مقابله الممثل جورج خباز في دور عزيز، أستاذ الموسيقى في الحي، خطف أبوه على حاجز السوريين خلال سيطرتهم على لبنان (أو حتلالهم إياه، كما يقول البعض)، وما زال بعد تلك السنوات يفتش عنه، متحرقاً إلى معرفة مصيره. وكم أبدع خباز في اللقطة التي يشاهد فيها جثة أبيه ويتعرف إليه من لباسه، لكنه لا يلبث أن يخيب. وكذلك في مشهد حرق البيانو الذي ورثه عن أبيه الموسيقي أيضاً، وقد أضرم النار فيه عمران، انتقاماً من حب مريم له وتخليها عنه، على رغم ما قدم لها من خدمات كثيرة ومنها تزوير جواز سفر لها. جورج خباز لا يحتاج إلى المديح فهو هنا في أمتن أدواره بعيداً من الكوميديا الشعبية، وبدا بحق قادراً كل القدرة على أداء الأدوار الدرامية بصدق وإحساس داخلي. ممثل يجمع بين المتانة والليونة، بين القسوة والعذوبة، متشائم وكئيب لكنه لطيف ورقيق داخلياً، وقد فجر هذه الرقة أو الحنان عندما ينحني على مريم القتيلة ويحملها ويركض بها إلى المستشفى. وهو كان في إمكانه أن يعمد إلى بعض التغيير في اللوك، مثل شكل لحيته أو نظارتيه أو قصة شعره، فهذا اللوك فرض شخصية جورج على جمهوره المسرحي والتلفزيوني. برع فعلاً في تجسيد دور الضحية اللبنانية في المسلسل، الضحية التي ولد فيها خطف الأب على يد الجيش السوري كراهية وربما عنصرية ضد السوريين عموماً. يبدو كأنه يعيش شبه منعزل ومتوجساً وخائفاً، في بيته شبه المغلق، ذي الباب المتعدد الأقفال، لكنه ما لبث أن خرج منها بعد أن وقع في حب النازحة مريم، حتى إنه حمل جثمانها في تابوت بعد أن قتلها زوجها طعناً بالسكين، وهو كان خطف في سوريا وغاب أربع سنوات ثم عاد ليتهمها بالزنى.

مريم أو كاريس بشار الرائعة، القديرة، المرهفة، القوية، مريم النازحة الجريئة التي واجهت كراهية اللبنانيين وخصوصاً عنصرية عزيز ولافتته اللئيمة التي علقها في الحي. وهي أيضاً المرأة السورية الوحيدة، تخلع الحجاب كي تلتقط صورة تختلف عن كونها محجبة، فتصبح امرأة أخرى، جميلة الوجه مسترسلة الشعر، ولكن خجولة ومهذبة وإنسانية، تحاول خوض الهرب عبر البحر في اليخت بالاتفاق مع أحد السماسرة اللصوص وتفشل. ممثلة رائعة تقع بدورها ضحية بعد أن قتلها زوجها، ضحية بريئة على “مذبح” النزوح والحقد والتعصب، في وجهيه السوري واللبناني، أحبت عزيز بقوة متحدية وضعها الاجتماعي وأحبها عزيز حتى الموت.

مفاجأة جميلة

أما مفاجأة المسلسل فتمثلت في حضور الممثل طارق تميم الذي أدى ببراعة وطرافة دور جميل، الصحافي السابق واليساري والأممي والفوضوي والمثالي والإنسانوي ولاعب القمار، الذي لا يتردد في سكب البنزين على جسده ليحرق نفسه احتجاجاً على البؤس الذي يعيشه هو والمواطنون، ثم يعمد إلى بيع كليته مقابل بعض الدولارات عندما علم أن امرأته قمر (الممثلة القديرة ساشا دحدوح) حامل ولا بد من توفير مبلغ يحمي العائلة. شخص بديع في أدائه المفتوح على أكثر من أسلوب، واقعي وسخروي (بورليسك) وعاطفي ورقيق وصلب. وبدا كأنه يعيش في جو يختلط فيه زياد الرحباني وزياد أبوعبسي الممثل الكبير. وأصلاً لم تغب صورة زياد الرحباني عن جدار منزله المفتوح أمام الجميع، وكذلك صورة المناضل تشي غيفارا.

طوني عيسى الممثل القدير والقادر على اللعب بنجاح على الكاركترات التي يؤديها بين مسلسل وآخر، مانحاً كل شخصية ملامحها وتعابيرها وشكلها، حتى ليبدو أنه يفاجئ الجمهور في كل دور يؤديه. هنا يطل ملتحياً، أصولياً، محافظاً وقاسياً على زوجته ابنة الثلاث عشرة سنة، يدير مجوعة إرهابية ويدعو إلى القتل باسم الدين بلا رحمة. زينة مكي ممتازة في دور الزوجة المغدورة التي تلجأ إلى الحي لتفتح محلاً لبيع الملابس النسائية، ثم تقع فريسة عمران القبضاي، ولا تنثني عن اقتحام أحد البنوك بمسدس في يدها وتطلق النار في الداخل وتحصل على وديعتها التي سرقها البنك منها مثل ألوف ألوف المودعين. هدى الشعراوي بديعة في دور مديرة وكر المقامرة. جمال العلي متميز في دور الانتهازي.

الفتى بارود الذي أدى دوره بنجاح وألفة الممثل تيم عزيز بدا كأنه “زنبرك” المسلسل بحركته الدائمة وتجواله، فهو بائع لوتو، ملم بأسرار الحي، يعمل مع الفاسد عمران ثم يقتله بالرصاص انتقاماً لموت مريم وينبش خزنته ويرمي دولاراته الكثيرة في الهواء ليلتقطها سكان الحي. يتمكن الفتى من إنقاذ زوجة الإرهابي ذات الاثنتي عشرة سنة، ويساعدها في وضع طفلها داخل القبو ثم ينتقل معها إلى قرية بعيدة ليعيشا معاً بهدوء، بعد أن حصل على كدسة من الدولارات… ويمكن القول إن الممثلين منحوا المسلسل قوة تضاهي قوة الإخراج وقوة القصة والحوارات المتراوحة بين لهجة سورية وأخرى لبنانية، تتداخلان وتفترقان معبرتين عن الاضطراب الذي يسود العلاقة المزدوجة.

طبعاً لم يتمكن المسلسل ذو النيات الطيبة من لأْم ما يمكن أن يوصف بـ”الجرح” الذي يعتري العلاقة اللبنانية السورية. فلا يكفي أن يقع عزيز كاره السوريين خاطفي أبيه في حب مريم النازحة السورية، ضحية النظام والزوج، وأن يحملها إلى قريتها في سورية، كي يلتحم الكسر الكبير الذي سببه النظام السوري بين لبنان وسوريا، أو كي تطوى صفحة سوداء تركها الاحتلال السوري في ذاكرة اللبنانيين. ومن الواضح اليوم أن الكراهية تزداد، خصوصاً بعد التهم التي تكال للنازحين السوريين ومنها سيطرتهم على فرص العمل في لبنان ومزاحمتهم أهله على الرغيف والطبابة والمساعدات الكثيرة التي تأتي من المنظمات الدولية.

اندبندنت

مقالات ذات صلة