صيف البردوني يبدأ بملذة “البوظة” الزحلاوية.. وبالدولار
يقترن استقبال موسم الصيف في مدينة زحلة، مع استعادة مقاهي البردوني لحيويتها، وعودة الوجوه المبتسمة التي تسبق الزائر إلى إلقاء التحية، بدءاً من مدخل “الوادي” وحتى آخر محطة لترفيه الأطفال فيها. فالبردوني بالنسبة للزحليين، هو بوصلة اقتصاد المدينة ومحركه صيفاً. ومؤسساته التي انطلقت منها المازة اللبنانية إلى سائر أنحاء لبنان، لا تزال تحافظ على لقمتها الطيبة، وعلى الود أيضاً الذي يلمسه زائر البردوني. ما يجعل كل زبون يشعر أن له صديقاً في هذه المنطقة، فيضرب هؤلاء موعداً دائماً للالتقاء بهم، ولو لمرة في السنة، يتمشون خلالها على ضفاف البردوني، يلعبون مع أطفالهم، وربما يختارون واحداً من مطاعمها لتناول الطعام، يحملون معهم السمسمية والفستقية، ولا يفوتون أبداً تناول قرن من البوظة الزحلاوية.
أجيال متعاقبة
وللبوظة تحديداً في منطقة المقاهي قصتها الخاصة. وهي القاسم المشترك الذي يسعى إليه كل الرواد، على اختلاف أحوالهم المعيشية وتنوع انتماءاتهم الاجتماعية. قد يفوت البعض، وخصوصاً في ظل تراجع القدرات المالية، ارتياد المطاعم في البردوني، ولكنه لن يفوت أبداً تناول البوظة الزحلاوية. فمن دونها لا يبدأ موسم الصيف ولا يمكن حتى أن ينتهي. ولذلك ارتباط بجودة هذا المنتج المقدم في مقاهي البردوني، والتي لم يبدلها أي ظرف، بالإضافة إلى القالب الساحر في تقديم هذه البوظة، بمقاه حفرت في الصخر، لا تتوارث الأجيال المتعاقبة على إدارتها وصفة صناعة البوظة فقط، وإنما أيضاً حسن الاستقبال والكرم الزحلاويين، واللذين ينكهان المنتج بطعم آخر.
ولصناعة البوظة خصوصية في زحلة تتجاوز الحسابات التجارية بالنسبة لمصنعيها، حتى لو شكّلت هذه الحسابات أحد التحديات التي كان يمكن أن تدفع بهم إلى “رفع العشرة” خلال ثلاثة مواسم متتالية.
فمنذ جائحة كورونا، وما تلاها من انهيار للعملة الوطنية وتقلبات في سعر الدولار، إبتلعت أرباح المؤسسات، وقزّمت القدرات المالية للمقيمين، كان التحدي الأكبر بالنسبة لأصحاب المؤسسات السياحية في زحلة كما في سائر المناطق، الصمود أولاً، إلى أن انتقلت هذه المؤسسات حالياً إلى مرحلة الدولرة. والبوظة كما سائر “الملذات” اللبنانية صار سعرها هذا الموسم أيضاً بالدولار. وحدد سعر كيلو المشكل منها مع انطلاقة الموسم منذ الأحد الماضي، بعشرة دولارات، فيما يرتفع سعر كيلو قشطة الفستق المتميزة بمكوناتها إلى 14 دولاراً.
هذا السعر يبدو منطقياً إذا ما ذكر بالدولار، وهو يشكل عودة إلى القواعد التي استقر عليها قبل انهيار سعر العملة الوطنية. ولكن بالنسبة لغالبية اللبنانيين الذين لا تزال مداخيلهم تنحصر بالليرة، فإن تناول كيلو من البوظة بات يتطلب ميزانية خاصة تتراوح بين مليون ومليون وخمسمئة ألف ليرة.
شر الدولار
إلا أن التسعير بالدولار كما يقول خلف، أحد المصنّعين، “كان شراً لا بد منه، بعد الخضات التي تعرضنا لها إثر عدم استقرار سعر الصرف في العام الماضي، حين اضطررنا لتبديل سعر الكيلو يومياً قياساً مع تبدلات سعر الصرف، وأحياناً كنا نصل لتسديد ثمن البضائع مع خسارة في قيمة الكميات التي قمنا بتصريفها. بينما الناس تتأثر سلباً بتقلبات هذا السعر، وتفضل السعر الثابت حتى لو كان بالدولار”.
وفي تبريره لخطوة دولرة البوظة يقول خلف “صحيح أنها سعرت بالدولار ولكن قيمتها تبقى فيها”. مستعرضاً كلفة المواد الأولية الأساسية المستخدمة في هذه الصناعة، التي ارتفعت أيضاً نتيجة للتضخم العالمي. “فالبوظة وإن كانت زحلاوية ، ولكن معظم مكوناتها مستورد من الخارج. سواء في صناعة صنف القشطة الذي يتكون إلى جانب الحليب، من السحلب، والمسكة، وماء الزهر والأهم الفستق الحلبي. وكلها مكونات تأثرت أسعارها بظروف التضخم العالمي.. وهذا أيضاً ما ينطبق على صناعة البوظة المشكلة، التي تضاعفت أسعار مكوناتها أيضاً، ولا سيما بالنسبة للكاكاو المركز وحليب البودرة، بالإضافة إلى تبدل أسعار الفاكهة المحلية المستخدمة فيها”.
تطور النكهات
إلا ان إرتفاع كلفة المكونات لا يجعل مصنعي البوظة الزحلاوية يساومون على جودة أي منها. فهم كما يقولون مؤتمنون على إرث دخل في تراث مدينة زحلة. وبالتالي، يعتبرون أن أي تغيير في نوعية هذه المكونات، يحمل مسؤولية القضاء على السمعة التي اكتسبتها البوظة الزحلاوية بجهد أجيال تعاقبت على صناعتها، ولم تسمح لحلقة إنتاجها أن تتوقف حتى في عز الحرب اللبنانية.
وترتبط سمعة بوظة زحلة مع قصة مصنعيها الأوائل. فيروى أن الزحليين تناولوا البوظة قديماً على يد شخصين من آل شموني وأبو حوش، إلا أنها لم تكتسب سمعتها إلا مع خليل خلف وابرهيم ابو سليمان، اللذين أطلقا هذه الصناعة في البردوني، بمحل صغير كانت تشغله والدة خليل خلف، أنيسة، وتبيع فيه البيض والخبز والعصافير لرواد “الصفة”، أي “ضفاف” نهر البردوني.
اقتصرت أنواع البوظة في البداية على نكهتي الليمون والحليب ثم تطورت إلى ست نكهات، ليضاف إليها القشطة التي تعلّمها خليل خلف من معلم بوظة إيطالي نزل في أحد المرات بأحد أشهر فنادق المدينة “أوتيل قادري”. شكري أبو سليمان ووليد خلف طورا هذه النكهات وأغنياها من بعد والديهما، فبات هناك أكثر من عشرين نكهة حالياً، الأكثر تميزاً بينها بوظة القشطة واللوز، ويفخر وليد خلف أن هذه النكهات جرى تقليدها حتى في الدول الأكثر شهرة بصناعة البوظة.
لذة موسمية
يتوقع خلف في المقابل أن يكون الناس قد تأقلموا في الموسم الجاري مع نظام الدولرة السائد حتى في السوبرماركت. ولا يتخوف من أن يؤدي التسعير بالدولار إلى تراجع حركة بيع البوظة في الوادي. برأيه “أن هذه ملذة موسمية، مثلها مثل بعض أنواع الفاكهة التي لا يمكن تذوقها إلا في موسم الصيف. وبالتالي، لا يمكن لأحد أن يفوتها”. ويتوقع خلف “أن تشكل أموال المغتربين التي لا تزال تتدفق إلى البلد، والتي يفترض أن يرتفع منسوبها في فصل الصيف، عامل ثقة إضافياً يحافظ على صمود هذه القطاعات، ويضمن اجتيازها للمرحلة الصعبة التي يمر بها لبنان”. منوّهاً بكون “سعر قرن البوظة في البردوني حتى بعد دولرته، لا يزال أدنى بكثير من سعره في أي بلد أخر في العالم، بينما طعمه في زحلة خصوصاً لا يمكن أن يضاهيه أي نوع من البوظة على مساحة امتداد هذا العالم”، حسب قوله.
المدن