حين هدّد الأمير بن سلمان الرئيس ماكرون…!
نشر موريس غوردو مونتانيو المستشار الأبرز سابقًا للرئيس جاك شيراك، كتابًا يتضمّن عددًا كبيرًا من محاضر الجلسات والمواقف التي بقيت طيّ الكتمان حول السياسة الخارجيّة لفرنسا، شارحًا كيف سعت إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، إلى إذلال إدارة شيراك قبل اجتياح العراق، وكاشفًا عن آخر لقاء جمعه بالرئيس السوري بشّار الأسد بُعيد الاجتياح، ومتوقّعًا ثورة جديدة في الجزائر وعودة الاسلاميّين. لكنَّ واحدةً من المحطّات اللافتة والمُهمّة التي كشفها في كتابه الحامل عنوان ” الآخرون لا يُفكّرون مثلنا”، كان اللقاء الأول بين الرئيس إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان.
ننقلُه حرفيًّا كما جاء في الكتاب فيقول:
كنّا في زيارة رسميّة، كتلك التي تعرفُ الجمهوريّة كيف تُعدُّها وتنظّمُها، هي واحدة من زياراتنا إلى الشرق الأوسط حيث رافقتُ فيها وفدَ الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان قد انتُخبَ قبل فترةٍ قصيرةٍ لولايتِه الرئاسيّة الأولى. كنّا ضيوفَ الإمارات العربيّة المُتّحدة لافتتاح متحف “اللوفر” في أبو ظبي والذي طال انتظارُه. كانت الإجراءات الدبلوماسيّة في هكذا نوع من الأحداث تسيرُ على نحوها الطبيعيّ، لو لم تُثر في خلال الغداء الذي أقامه لنا وليّ العهد الشيخ محمد بن زايد، امكانيّة لقاءٍ مع محمّد بن سلمان، الرجل القوي الجديد للمملكة العربيّة السعوديّة، وريث العرش أيضًا، والذي يتابع العالمُ الغربيّ باهتمامٍ أول مساعيه لتحديث المملكة الوهّابيّة.
لم يكن بين إيمانويل ماكرون ومحمّد بن سلمان حتّى ذاك الوقت، سوى اتّصالاتٍ تلفونيّة شبه جامدة، ذلك أنّ بعضَ سوء التفاهم بين فرنسا والمملكة كان ينبغي إزالتُها، وكانت أهميّة المصالح تقتضي بأن نكون قادرين على قلب نمطيّة الدبلوماسيّة وقوالبها التقليديّة، كي نجرؤ على تحديد موعد سريع وبلا تحضيرٍ مُسبق.
تولّى محمّد بن زايد مهمة المساعي الحميدة، قياسًا إلى المصلحة الاستراتيجيّة، أو بناء على ذكرى المحبّة التّي كان والدُه الشيخ زايد، يُكنّها لفرنسا، والتي نسج معها، عبر جاك شيراك، علاقة أخويّة دائمة. وقد أراد (الشيخ محمّد بن زايد) اعتمادَ مثلَ تلك العلاقة مع الرئيس ماكرون، من خلال الثقة المتبادلة نفسها.
في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر، وفي خلال عودتها من الإمارات، هبطت الطائرة الرئاسيّة الفرنسيّة في مطار الرياض. وقد قفزنا فوق البروتوكولات المعهودة، للسماح للرئيس والأمير بلقاءٍ ثنائيّ، دون أن يبدو في الأمر تقدُّمًا لأحدهما على الآخر. وتمّ الاتفاق على أن تكون هذه المحطّة الدبلوماسيّة غير المتوقّعة، فرصة للقاء بسيط في القصر الملكي الهائل في المطار، حيث جاء محمّد بن سلمان يُصافح الرئيس الفرنسيّ ويتحاور معه.
استقبل محمّد بن سلمان إيمانويل ماكرون بهدوئه الواثق وبابتسامةِ أولئك الذين ما اعتادوا على أن يعارضَهم أحد. كان يُحيط به نحو عشرة وزراء ومستشارين، والذين بطبيعة الحال، ليسوا ذوي خبرة طويلة، الاّ مع بعض الاستثناءات بينهم، والذين كان دورُهم على ما يبدو، تدوين الملاحظات والموافقة على رغبات سيّدهم.
فرضت هيبةُ محمّد بن سلمان نفسها، وربما سيطر على نظيره الفرنسي، وكان يوحي من خلال ابتسامته فوق أسنانه البيضاء ولحيته السوداء المشذّبة بإتقان، سُلطة لافتة بدون أي منازع، وكانت عيناه تلمعان جُرأة.
بدأت المحادثات بالإنكليزية، من خلال بعض الأمور العابرة، ثم حان سريعًا موعدُ الغداء، والذي عبَّر مضيفُنا في خلاله عن رغبة حقيقيّة بنسج علاقات ثقة بين البلدين. كانت المائدة المزيّنة بالورود، عامرة بالمازات (المُقبّلات) ولحوم الغنم، والدجاج، والحلويات المنوّعة، وعصائر الفواكه، مُذكّرة بتأثير المطبخ اللبنانيّ الذي يجذب الغربيّين بشكل عام.
أخذت المُحادثات منحىّ آخر مختلفًا تمامًا، فنزعت عنها المفردات والآراء المسبقة المعهودة للغة الدبلوماسيّة، وراح كلُّ منهما، يستخدم لغتَه الأم، في محاولة لإقناع الآخر على نحو أفضل، يساعُدهما مترجمان.
كان الحوارُ موزونًا ودقيقًا، ثم ارتفعت حرارةُ النقاش، وراح إيمانويل ماكرون يتحدّث عن سياسته، ويتطرّق إلى طموحه بتطوير فرنسا العجوز، ذلك أنّه كان قد وصل حديثًا الى الرئاسة وواثقًا بعملِه وقوّة خطابه. وكان وليّ العهد، يسعى هو الآخر لتحديث المملكة، بعد ثلاثين عامًا من الركود، وفق ما أسرّ لنا. وراح يُشدّد على آفاق الإصلاح في المجال الدينيّ قائلا:” إن ما هو جيّد للسعوديّة، بلاد الحرمين المُقدّسين في الإسلام، سيكون جيّدًا أيضًا للشرق الأوسط وكلّ العالم الاسلاميّ”.
بالنسبة لي، أنا الذي قمتُ بمهمات عديدة من قِبَل جاك شيراك مع الملك عبدالله، كان التناقضُ واضحًا، فها أنّنا نكتشفُ مملكةً سعوديّة مغايرة عن تلك التّي عرفتُها. ونكتشفُ جيلاً جديدًا من القيادات، لا يستبعد أيًّا من التحديّات الداخليّة الواجب مواجهتها، دون الاهتمام بالطريقة الواجب اعتمادُها للوصل إلى ذلك. وهذه كانت نقطة مشتركة بين محمّد بن سلمان وإيمانويل ماكرون.
بن سلمان يُهدد
خاض الرجُلان المُعتادان على النصر، والمهتّمان بصورتَيهما كأثنين من كبّار رجال التحديث، خطابين طويلين متوازييّن، ثم فجأة، تغيّر وجهُ محمّد بن سلمان، وتغيّرت لهجتُه وعباراتُه، وأشار بسُبابته (أصبعه الثاني) إلى الرئيس الفرنسي على نحو اتهاميّ مُعيبًا عليه موقفه من إيران، وموقفه بشكل عامٍ أيضًا من سياسةِ بلادنا في مواجهة طهران. حلّت الدهشة في صفوف الوفد الفرنسيّ، خصوصًا حين هدّد وليُّ العهد بمقاطعة الشركات الفرنسيّة، إذا ما واصلنا السير في هذه الطريق، وتركنا شركاتِنا تتّخذ من إيران ساحةً لها.
تساءلتُ في تلك اللحظة بالضبط، عمّا إذا كُنا قد أخطأنا بأخذ موعدٍ على عجل، دون إعدادٍ، لكن لم يتسن لي الوقت للتفكير بكلّ ذلك، حيث سارع ماكرون إلى الردّ واضعًا قبضَته على الطاولة وبالانفعال نفسه الذي واجهه، وقال:” يا سموّ الأمير، أنا رئيس دولةٍ حُرّة ومستقلّة، وفرنسا لا تتصرّف بناء على التهديد أو الوعيد، وسأواصل سياستي، خصوصًا حين يتعلّق الأمرُ بمكافحة الانتشار النوويّ، وأعتقد أنَّ ثمّة مجالاتٍ عديدة نستطيعُ العملَ سويًّا بشأنها”.
هضمَ محمّد بن سلمان الردّ، دون أن يبدوَ عليه أيُّ شعور، ثم ابتسم وانتقل إلى موضوعٍ آخر، وراح يحكي عن مصالحنا الاستراتيجيّة المشتركة وخصوصا ما يتعلّق منها بمكافحة الإرهاب. بدا الأمير مُنفتحًا وبنّاءً، وعُدنا الى باريس محمّلين بوعد المساهمة الاضافيّة ب بنصف مليار دولار لقواتنا العاملة في الساحل (الافريقيّ) 5G Sahel
تعليقُ بسيط على كلّ ذلك: حين زار ماكرون لُبنان، حقّر الطبقة السياسيّة، وتصرّف معها كاستاذ مدرسة ( وهي تستحقّ طبعًأ) لكن أحدًا لم يعترض عليه، وحين انزعجت منه الجزائر، منعت كلّ الطيران الفرنسي الذاهب إلى مالي من العبور في أجوائها، فاضطر لارسال حكومته ومعظم وزرائها لترتيب الأوضاع، وها أنّنا نقرأ كيف أن الأمير محمد بن سلمان تصرّف معه لحماية مصالح بلاده. متّى يُصبح في لُبنان قادة يتصرّفون بمثل هذه الكرامة؟ ففي لُبنان أيضًا هُناك مصالح اقتصاديّة وفرانكوفونيّة كبيرة لفرنسا.
د. سامي كليب- موقع لعبة الأمم (نشر منذ اسبوع)