كيف تؤسس السعودية لمفهوم جديد للسلام في الشرق الأوسط؟
لطالما ارتبط “السلام في الشرق الأوسط” بإدماج إسرائيل ببقية دول المنطقة من خلال التوافق مع فلسطين وحلفائها العرب، وصولاً إلى تجنيب تل أبيب أخطار محيطها، فعلى الأقل هذا ما رسخته واشنطن من خلال تسمية مسؤولها عن حل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بـ “مبعوث السلام في الشرق الأوسط”. لكن بينما تتردد بزخم أكبر أحاديث انكفاء واشنطن عن المنطقة، يبدو أن سردية جديدة تتشكل للسلام في الإقليم برعاية السعودية التي تقود منذ مستهل العام الحالي مصالحات متعددة، من إيران واليمن ووصولاً إلى سوريا.
وعلى رغم انسداد أفاق حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وسط التصعيدات الأخيرة، فإن الصحف والمراقبين الغربيين لم يترددوا عن وصف ما يجري من تهدئة بأنها مقدمة للسلام في الشرق الأوسط، بينما تنشط السعودية منذ مارس (آذار) الماضي في تحقيق “اختراقات دبلوماسية” لم تفاجئ العالمين العربي والغربي فحسب، بل حتى النخب السعودية وجدت نفسها أمام تغيرات لم يبد أنها ستتحقق، بخاصة الاتفاق مع طهران، الذي جاء بعد نحو سنتين من مفاوضات غلب عليها الجانب الاستكشافي في معظم أوقاتها، قبل أن تجتاح صور المصالحة الآتية من بكين صحف العالم، وتغير منطلقات الكتابة عن الشرق الأوسط، من منطقة تترقب مزيداً من الصراعات إلى منطقة تستعد إلى السلام.
وبعد أسابيع من إنهاء السعودية قطيعة السبع سنوات مع إيران، وصل وفد سعودي إلى صنعاء والتقى بمعية وفد عماني ممثلين من جماعة الحوثي، تمهيداً لجمع الأطراف اليمنية كافة على طاولة واحدة لمناقشة مستقبل اليمن بعد ثماني سنوات من الحرب، التي بدت الرياض عازمةً على وضع حد لها. وعلى رغم أن المساعي السعودية للسلام ليست وليدة اللحظة، إلا أنها شهدت زخماً أكبر في الأسابيع الأخيرة، تجسد في مبادرات تبادل الأسرى بين أطراف الصراع.
وما إن بدأ الرأي العام العربي يستوعب التغيرات المتسارعة في اليمن، حتى عادت دبلوماسية الرياض لتخطف الأنظار بعدما حطت طائرة وزير خارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان في مطار دمشق الدولي، في أول زيارة رسمية لمسؤول سعودي إلى سوريا منذ نحو 12 عاماً.
جدل الملف السوري
على رغم أن ثيمة السلام وبناء شرق أوسط مستقر وأكثر رحمةً بأبنائه كانت حاضرة في الخطوة السعودية الأخيرة نحو إعادة العلاقات مع سوريا كما هو الأمر بالنسبة إلى المصالحة مع إيران وتذليل العقبات أمام الحل السياسي في اليمن، إلا أنها لاقت هجوماً من “طلائع” وصفها الكاتب السعودي عبدالرحمن الراشد بأن غالبها ليس مرتبطاً بالشأن السوري.
ودافع الراشد في تغريدة مطولة عن الخطوة السعودية نحو إذابة جليد الملف السوري بعد 12 عاماً من الاقتتال قائلاً إن الحرب بعد كل هذه السنوات “لم يتبق منها إلا القوى المسلحة المتطرفة (النصرة) والحركات القومية (كرد سوريا والسلطان التركمانية) واللاجئون”. واستنكر ضمناً الهجوم على الرياض مشيراً إلى أن “المعارضة نفسها جلست مع ممثلي النظام وفاوضتهم بعد أن كانت ترفض المبدأ والبرنامج، في أستانة وسوشي وجنيف”، ولافتاً إلى أن أكثر من عشر دول عربية سبقت الرياض في تطبيع العلاقة مع دمشق، وأن المقام لن يطول قبل أن تقبل “الدفعة الأخيرة” قطر والمغرب والكويت بـ “الأمر الواقع”.
ما الذي تغير؟
قبل زيارته دمشق، أكد وزير الخارجية السعودي بأن “هناك إجماعاً عربياً على أن الوضع الراهن في سوريا يجب ألا يستمر، وضرورة معالجة وضع اللاجئين السوريين في الخارج والجانب الإنساني في الداخل”. أعقب ذلك بأسابيع تأكيد سعودي على وجود مباحثات مع دمشق لاستئناف الخدمات القنصلية، ومن ثم زيارة وزير الخارجية السوري إلى جدة، التي مهدت للقاء نظيره السعودي بالرئيس السوري بشار الأسد الثلاثاء الماضي، لبحث خطوات تحقيق تسوية سياسية شاملة في سوريا تسهم في عودتها إلى محيطها العربي.
عن دوافع تحول السياسة السعودية حيال سوريا، يقول علي العنزي عضو مجلس الشورى السعودي سابقاً إن رؤية بلاده للأزمة السورية “تغيرت لأنها وجدت أن عزل سوريا ليس في مصلحة الجميع خصوصاً وأن الدولة السورية فرضت سيطرتها على جزء كبير جداً من الأرض السورية وعلى جميع المدن فيما عدا إدلب”، لافتاً إلى أن “عدم احتضان سوريا سيترك مجالاً للدول الإقليمية والدولية الأخرى لتحل محل الدول العربية”.
وذكر العنزي في حديثه لـ “اندبندنت عربية” بأن مطالب الرياض لإعادة العلاقات مع دمشق تتمثل في “الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها وهويتها العربية وبسط سيطرة الدولة على الأراضي السورية كافة ومحاربة المنظمات الإرهابية وخروج المليشيات من الأراضي السورية وتهيئة الظروف لعودة النازحين السوريين وإطلاق حوار بين السوريين يفضي إلى حل سياسي للأزمة السورية”، كما أوضح البيان الذي تلا زيارة وزير الخارجية السوري للسعودية.
وعن مستقبل المعارضة السورية التي دعمتها السعودية في وقت سابق، قال إن “المعارضة ضعيفة ومشتتة على عواصم عديدة وليس لها امتداد في الداخل السوري وحلت محلها المليشيات المسلحة في إدلب وقسد في شرق الفرات ولذلك لا أحد يعول على المعارضة”.
من جانبه، يرى الراشد أن “تأثير المصالحة السعودية صفر على نشاط المعارضة السورية التي بمقدورها العودة للمواجهات لو شاءت ووافقت تركيا” لأن “السعودية ليست دولة حدودية مثل تركيا حتى تؤثر في الداخل”. وقال “تركيا، الدولة الرئيسة في منظومة المعارضة، هي الشريك والضامن وليست السعودية، تركيا سبقت إلى التعامل مع دمشق وزارها الوزير تشاويش اوغلو في الصيف الماضي. وهناك تنسيق أمنى وسياسي بين البلدين”.
“مشروع سعودي”
يعتبر عضو مجلس الشورى السعودي سابقاً خطوة بلاده نحو إعادة العلاقات مع دمشق “نقلة نوعية” في اتجاه عودة سوريا إلى حاضنتها العربية، ومساعدتها على تجاوز أزمتها، لكنه يشير أيضاً إلى أنها تأتي في سياق “مشروع السعودية” للمنطقة الرامي إلى لم الشمل العربي، وتحصين المنطقة في مواجهة التحديات والأزمات من خلال الحوار والانفتاح والتنمية.
وهو ما يتفق معه جيسون برودسكي الباحث الأميركي في معهد “الشرق الأوسط” قائلاً في حديث لـ “اندبندنت عربية” إن مساعي إعادة العلاقات السعودية – السورية تعكس رغبة السعودية في إعطاء الأولوية لخفض التصعيد بينما تنفذ رؤيتها الوطنية 2030، لافتاً إلى أن الرياض ربما ترى في “بناء علاقات مع الرئيس السوري طريقة لتقليل النفوذ الإيراني في سوريا”.
إلا أن برودسكي شكك في قدرة الأسد على تغيير مواقفه من إيران، نظراً إلى أنه “عضو رئيس في محور المقاومة ومدين جداً لطهران، لدرجة أنه لن يكون قادراً على إحداث تغيير ملموس وإيجابي” على حد قوله. وأضاف، “دعونا لا ننسى أن إيران تدخلت في سوريا حتى بينما كانت تقيم علاقات دبلوماسية مع الرياض، ولذلك فإن تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية لا يضمن التقارب أو التغيير في أسلوب عمل الحرس الثوري الإيراني في المنطقة. الحذر سليم”.
هاجس الإقليم وموقفه
نشاط السعودية لتهدئة التوترات في المنطقة ليس وليد اللحظة، بل بلغ أوجه قبل أكثر من عامين عندما توصلت بالتنسيق مع الإمارات والبحرين ومصر إلى اتفاق مع قطر، أنهى أزمة دبلوماسية استمرت أكثر من ثلاث سنوات. وأعقبه بعام عودة الحياة إلى العلاقات السعودية – التركية.
لكن وساطة الصين بين الرياض وطهران التي جمعت الخصمين الإقليميين على طاولة واحدة في بكين حظيت بالزخم الأكبر، بعدما أعلن البلدان عودة العلاقات وفتح السفارتين، ومهدت المصافحة السعودية – الإيرانية إلى انفراجة في حرب اليمن، على إثر مبادرات تبادل الأسرى الأخيرة والتفاهمات المرتقبة على حلول لتمديد الهدنة ورسم مستقبل البلاد ما بعد الحرب.
وبحسب مراقبين، يظل القاسم المشترك في مساعي السعودية لإنجاح تلك المصالحات رغبتها في استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط، والتركيز على الرخاء الداخلي لشعبها الذي أكد وزير الخارجية السعودي في مناسبة سابقة أنه الموجه الأساسي للسياسة الخارجية.
لكن الهاجس المحلي يتقاطع أيضاً مع اعتبارات إقليمية أشار إليها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في عام 2018 عندما اعتبر أن “الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة”، وقال إنه لا يريد أن “يفارق الحياة قبل أن يرى الشرق الأوسط متقدماً عالمياً”.
وفي مناسبة أحدث مخصصة لمكافحة التغير المناخي عام 2021، قال ولي العهد السعودي، “نعي تماماً في الشرق الأوسط بأن هناك تحدياً وفرصاً كبيرة جداً لدى دولنا، لذلك نحن نعقد قمة اليوم بأهداف واضحة لكل دولنا، وسنعمل بشكل جدي، مؤكداً، “سنقف أمام العالم بإنجازات نفخر بها في دول الشرق الأوسط”. وعندما اختتم الأمير محمد بن سلمان القمة العربية – الصينية التي نظمتها بلاده أواخر العام الماضي قال، “نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم”.
وفيما تتجه المنطقة نحو التهدئة وسط تحركات سعودية ما بين إيران وسوريا واليمن، أظهر استطلاع حديث لمؤسسة “غالوب” أن “القيادة السعودية” تحظى بشعبية أكبر من القيادة الإيرانية في 13 دولة ذات غالبية مسلمة شملها الاستطلاع، وهي “الكويت وليبيا والأردن وباكستان والمغرب والعراق والجزائر وتونس ولبنان وأفغانستان، واليمن، والأراضي الفلسطينية، وتركيا”.
وحصلت طهران على أقل نسبة تأييد في الدول التي يعرف بأنها تتدخل في شؤونها الداخلية مثل العراق، إذ أعرب 86 في المئة من المشاركين عن وجهة نظر سلبية تجاه القيادة الإيرانية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى 80 في المئة من المشاركين في اليمن، و73 في المئة من نظرائهم في لبنان.
وأظهر الاستطلاع رفض 73 في المئة من اللبنانيين للقيادة الإيرانية، في حين أعرب 58 في المئة من الشيعة في لبنان عن دعمهم لها مقابل 39 في المئة لا يؤيدونها، ومع ذلك، فإن نسبة تأييد المسلمين الشيعة لإيران في العراق كانت منخفضة عند 17 في المئة فقط، مقابل 83 في المئة يرفضون دعمها.
وخلص استطلاع المؤسسة إلى أن “السعودية تظل خادمة الحرمين الشريفين وينظر إليها بأنها زعيمة للعالم الإسلامي، إضافة إلى كونها أهم منتج للنفط في العالم”. وأضاف، “الشعبية النسبية للبلد في المناطق المباشرة والمجاورة لها تجعلها شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة”.
اندبندنت