بكين بعد بيغن… على حاجز المدفون: تعويم منظومة الاستقواء بالخارج من قبل مقاطعجيّة الداخل
بكين بعد بيغن… على حاجز المدفون!
يقول المختصّون إنّ من أكثر الأشرطة المصوّرة تداولاً في المدّة الأخيرة شريطين:
– الحوار بين رئيس بلدية القاع البقاعية، مستجوِباً نازحاً سوريّاً عن زيجاته الثلاث وأولاده الستّة عشر.
– وحوار مماثل مع نازح سوريّ آخر في منطقة زغرتا، سئل كم ولداً أنجب في لبنان؟ فأجاب: “شي 7”.
مع ما في الشريطين من انتهاك لخصوصية شخصين بائسين وإنسانيّة مأساتهما.
علماً أنّ حساسيّة خاصّة تبدو موجودة في زغرتا حيال النزوح السوري. ربّما إثر سلسلة حوادث وجرائم بشعة ارتكبها أفراد. لكنّها ولّدت ردود فعل جماعية ضدّ شعب كامل. وهو ما لم يسعَ أيّ مسؤول محلّي لمعالجته، باستثناء دور الجيش…
قد تكون تلك الأشرطة عفويّة. وقد تكون مقصودة هادفة وغرضيّة.
لكنّها في الحالتين تقوم على قاسمين مشتركين: سوريّ، وفي منطقة مسيحيّة.
وبالتالي فهي عنصر من مجموعة التدليل على عودة المسيحيين إلى قفص رُهابهم وخوف وجودهم وهواجس هويّة مذعورة دائماً.
مع أنّهم عند كلّ محطّة مفصليّة على الأقلّ، انخرطوا كجيلٍ شابّ وبأكثريّة، في خطاب وطني ينتمي إلى محيطهم وينبثق منه.
مع “عون الأوّل” في حرب التحرير سنة 1989، ذهبوا لملاقاة الشريك فوق حواجز التقسيم.
وفي 14 آذار 2005 ملأوا الساحات نصرة لدم رفيق الحريري.
ومع الربيع العربي حلموا بأن يتحوّل جسد البوعزيزي ورفاقه في كلّ كهف من “كهوف الشرق”، شعلة عبور “إلى الشرق الجديد”.
وأخيراً في 17 تشرين ببيروت، توحّدوا حتى الذوبان مع ساحة ثورة طرابلس ودوّار إيليا وبعقلين وصور والنبطية.
حتّى أدرك زعماؤهم خطورة التحوّل، فقرّروا إعادتهم إلى قفص الطوائفية العقيمة… ونجحوا جزئياً ومؤقّتاً.
لكنّ الأدهى أنّ هذه العودة إلى شرانق العصبيّات تحصل فيما القوى الأساسية للمسيحيّين تفتقر إلى أيّ خطاب أو رؤية أو مشروع واضح.
سمير جعجع مثلاً، صار أكبر قوّة اقتراعية مسيحية. نحو 170 ألف مقترع له وحده. وبفارق كبير عن ثانيه. قوّة تُرجمت كتلة نيابية تبدو في الحساب السياسي اليومي، وكأنّها مكوّنة من “نوّاب لولار”. كما وصفها أحد الحريصين. قيمتها الفعليّة بحدود عُشر عددها.
فيما جعجع نفسه كان يردّد دوماً أنّ حلّ القضيّة اللبنانية بشكل جذري يقتضي الإجابة الصحيحة والناجعة على ثلاث إشكاليّات:
إشكالية تشخيص صحيح للأسباب الحقيقية والعميقة للأزمة. ثمّ إشكالية تقديم الحلول الفعليّة لها. وثالثاً إشكالية امتلاك الأدوات اللازمة للوصول إلى تلك الحلول.
معادلة صحيحة، يبدو بشكل جليّ أنّ واحدة من حلقاتها على الأقلّ مفقودة اليوم لدى جعجع كما لدى سواه.
من منهم قدّم تشخيصاً؟ من منهم أعطى حلّاً؟ من منهم بنى أدوات لتنفيذ الحلّ؟!
من جهته، جبران باسيل أزمته أكبر شخصيّاً. لكنّها أقلّ تأثيراً على الوضع العامّ. فإشكالية مستقبله السياسي عالقة بين حلقات صراعيّة متراكبة: من حلقة العائلة إلى الرفاق الحائرين، فالرفاق السابقين، وصولاً إلى علاقته النزاعية بكلّ مخلوق متحرّك على الأراضي اللبنانية.
لذلك بات أسير فالق يتّسع ويتباعد كلّ لحظة، بين وجدانه وسلوكه. بين ما يريد وما يفعل. بين أن يخاطب “السيّد” بكلمات الوفاء. وبين أن يضطرّ مغتبطاً إلى الاستعانة بوزير مجريّ صديق، هو أبشع صور أوروبا تصهيُناً.
لا لزوم لاستعراض القوى الأخرى الأقلّ تأثيراً.
لكنّ المسيحيين يبدون مدركين لأزمات زعاماتهم تلك. لذلك ذهبوا للبحث عن قنوات جانبية لحلول مستحدثة وبمبادرات من خارج القوى الحزبية.
وهنا ظهرت أخيراً ثلاث محاولات واضحة:
محاولة أولى صريحة جدّاً. اسمها العودة للدفاع عن “الخصوصية والوجود”. وترجمتها العمليّة الفدرالية. مع كلام فوق السطوح. وأسباب موجبة بأن لم يعد لدينا ترف الوقت لننتظر ماذا سيحصل بين طهران والرياض. ولا كيف سيتطوّر الإسلام السياسي مع حركة بن سلمان التحديثية وتحدّيها للتجربة الخمينيّة الدوغماتية. ولا تأثيرات متغيّرات الإقليم على لبنان ووجدانات جماعاته.
فناسنا يرحلون. ولذلك علينا الآن أن نعطيهم الآن وفوراً، وعداً أو مشروع “جغرافيا مفيدة آمنة”، توقف نزفهم الديمغرافي القاتل. بعدها لكلّ حادث حديث.
وليس تفصيلاً أن تنضوي في هذا المشروع نخب مسيحية من خارج الاصطفاف الحزبي المسيحي: مستشار رئيس حكومة ونقيب قطاع اقتصادي كبير ونخب معارضة للزعامات المسيحية.
المحاولة الثانية، تحاول تصحيح مقاربة الفدراليين. بالقول لهم: إنتبهوا. مشكلتنا ليست مع المسلمين. ولا هي مع الشيعة. بل مع الحزب حصراً. وهي مع الحزب، لا كأفراد شيعة مسلمين لبنانيين. بل كأدوات للمشروع الإيراني في لبنان.
وبالتالي فلنعمل على توحيد كلّ القوى الأخرى في وجه هذا المشروع. تماماً كما فعلنا عند مواجهة المشروع البعثي في لبنان. ولننتظر لحظة إقليمية ودولية مؤاتية، لإعادة توحيد البلد واستعادته من كونه مختبر تجارب إقليمية للباسيج والباسدران. فنعيد تجديد معنى الميثاق والشراكة والحياة معاً!
– بين المحاولتين كانت هناك دوماً قراءة ثالثة. أطلّت مجدّداً من على منبر بكركي هذا الأسبوع. بلسان سليمان فرنجية.
إنّها النظرية القديمة الجديدة القائلة بأنْ صحيح أنّ المسيحيين في خطر. وصحيح أنّ كلّ من حولهم في لبنان ومحيطه يشكّل تهديداً لهم. لكنّهم أضعف من أن يحموا أنفسهم ذاتياً. فيما الرهان على وحدتهم مع شركائهم مجرّد وهم. لذلك الحلّ الوحيد لكم يا مسيحيين، هو بالاتفاق مع القويّ من حولنا والاحتماء به. ثمّ بالاستقواء به وبقوّته، للحفاظ على موقعنا في السلطة وحصّتنا فيها. أي التنازل عن الاستقلال مقابل هامش من الاستقرار. ذمّية سياسية. بدل أن نقول إنّنا الأضعف. نقول إنّنا حلفاء الأقوى. فنستقوي به ونحكم بعضلاته.
هي نظرية حلف الأقلّيات التي نظّر لها البعض وجرّبها بعض آخر، تعود اليوم بشكل صريح. لا بل بتهديد واضح.
كأنّ فرنجية أراد القول من بكركي للمسيحيين: إذا لم تقبلوا بي رئيساً، فستتكرّر مأساة 1990. في إشارة فجّة إلى الاجتياح السوري الذي ركب منظومة التجنيس والتفليس.
لكنّ أكثر ما لم يكن موفّقاً في كلام فرنجية، ملاحظته عن كون مسيحيّي جبل لبنان “مش قاطعين المدفون”.
والمقصود طبعاً ذلك الجسر الصغير الفاصل بين قضاءي جبيل والبترون…
هي المرّة الثالثة التي يُذكر فيها المدفون في الأدبيات السياسية العامّة.
المرّة الأولى مع سمير جعجع في آذار 1985، يوم قال في الجامعة اليسوعية في الأشرفية، إنّه “لدينا بين المدفون وكفرشيما مقوّمات كافية لحلّ صحيح لكلّ الأزمة في لبنان”.
المرّة الثانية يوم كان فرنجية نفسه وزير داخلية النظام بعد التمديد لإميل لحّود. وكان في حوار تلفزيوني استفزّ فارس سعيد. فتدخّل الأخير هاتفياً، ليقول له على الهواء: “سليمان فرنجية إنت حدود المدفون”.
والمرّة الثالثة مع فرنجية نفسه هذا الأسبوع.
ما سها عن بال الجميع، وخصوصاً عن ذاكرة المسيحيين من الزعماء والعوامّ، أنّ المدفون هو موقع الحاجز السوري الذي فصل الجبل منذ سنة 1978. بعد مقتلة إهدن الرهيبة. بينما الحاجز المقابل عُرف باسم حاجز البربارة.
يومها حاول منظّرو “المجتمع المسيحي” البحث عن تفسيرات كونية لتبرير ما ارتكبوا بلديّاً. فطلع معهم أنّ ما حصل كان نتيجة ذهاب الرئيس أنور السادات إلى تل أبيب وانطلاق مسار السلام المصري الإسرائيلي والاستعداد لكامب ديفيد بعد أشهر قليلة.
وأنّ هذا ما جعل بيغن يطلب من واشنطن وقتاً مستقطعاً لتنظيف لبنان، قبل تفرّغه للاتفاق مع القاهرة. فحصلت عملية الليطاني في آذار. وتبدّلت الحسابات في لبنان. خرج فرنجية الجدّ من الجبهة اللبنانية ليصطفّ مع الأسد. فيما راهن زعماء “جبهة عوكر” على أحلام السلام… فوقع “الصراع الدولي” بين الطرفين. وكانت واقعة إهدن وما قبلها وما بعدها. وصارت هناك حدود إقليمية دولية في قلب جبل لبنان اسمها حاجز المدفون السوري… هذا وفق تخيّلات المسيحيين.
فيما السبب الحقيقي، أو الشرارة التي فجّرت ذلك الصراع على الأقلّ، كانت محاصصة شركات الترابة في شكّا والإتاوات الحزبية عليها ومنافعها وزبائنيّتها.
قصّة خوّات ماليّة بسيطة لا غير، جعل منها عقل الزعامات المسيحية صراعاً دولياً بين إهدن وبشرّي.
اليوم ثمّة من يحاول تكرار السيناريو نفسه. عبر الإيحاء بأنّ تداعيات اتفاق بكين، بأبعاده الكونية، هي ما يتمخّض الآن عندنا ويتجسّد في ترشيح فرنجية المواكب لتطوّرات عصر شي جينبينغ وخارطة “الحزام والطريق” العابرة لساحة الميدان. فيما خصومه ما زالوا في ماضي الأحاديّة الأميركية في قيادة العالم، من عند حاجز المدفون.
بينما الحقيقة في النهاية، أيّاً كانت النهاية، أنّ اللعبة محدودة بإعادة تعويم منظومة الاستقواء بالخارج من قبل مقاطعجيّة الداخل. وبمن يرث حصّة الأخوين رحمة في الفيول ومن يستردّ الكازينو من باسيل ويوزّعه ويفرّعه. فضلاً عن بعض فضلات أخرى من بقايا وطن ودولة
جان عزيز- اساس