سليمان فرنجيّة.. والكراهية السهلة: جوقة زجل على “ممانعة وصوله”!
ينتظر اللبنانيون على أحرّ من الجمر نضوج المعادلة السينيّة في المنطقة أوّلاً ولبنان تالياً لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. ينتظرون بصبر فارغ وكالقابض على جمر ملء الشغور في سدّة الرئاسة الأولى لأنّهم يعيشون في القعر. لكنّ ما هو غير مفهوم الاعتقاد اللبناني العامّ أنّ مثل هذا الاستحقاق ينهض به قادة البلد أو بعضهم.
الرديء في هذا الاعتقاد هو الانشطار المسيحي عموماً، والماروني خصوصاً، لجهة الشخصية المرغوب في رؤيتها على كرسي بعبدا. والأكثر سوءاً فيه أنّه يتكتّل ضدّ شخص سليمان فرنجية من باب العداوة “الشخصية والمناطقية”، علماً أنّ ثلاثي المتكتّلين ورابعهم كانوا أعلنوا من الصرح البطريركي وبرعاية سيّده أنّ “الزعامة المسيحية ـ المارونية” معقودة اللواء لهذا الرباعي.
يحصل هذا على الضدّ من وجهة المنطقة التي تنحو مناحي “تفاهمات” كان من المستحيل حتى تخيّلها: ذهاب البعض العربي إلى التطبيع مع إسرائيل تحت ظلال “إبراهيمية” غريبة وغير مفهومة، واتفاق سعودي ـ إيراني تحت رعاية وضمانة صينيّتين بدّل الأحوال من الشرق الأوسط حتى أقاصي آسيا.
كراهية فرنجيّة
قد يكون مفهوماً التكتّل ضدّ الزعيم الشمالي لو أنّه يأتي خلافاً لأرجحيّات داخلية وخارجية، مع محدودية تأثير الأولى. أعلنوا كراهية للرجل لا تجد أسبابها الحقيقية في السياسة حتى لو كانت هذه السياسة على معنى جوهري وجذري. تحلّقوا كمن يتحلّق في جوقة زجل على “ممانعة وصوله” من دون إعلان بديل متّفق عليه وفي لحظة انسداد وطنيّ مُرعبة.
يتناول الاجتماع اللبناني الأهليّ والسياسي يومياً المساعي الخارجية في شأن الرئاسة الأولى. يتبادلون بسهولة ويسر شديدين الحديث في المنتديات والإعلام عن ارتفاع أسهم هذا أو ذاك في هذه العاصمة أو تلك. لا يعنيهم حجم ومعنى التدخّل الخارجي، فوطنية اللبنانيين من طبيعة أهلية ومناطقية. الجميع يُمنّن الجميع بغزارة الدم المسفوح من أجل لبنان ما. والجميع هذا على تنويعات مسمّياته كلّها قاتل خارجاً ما. لكن ما ضارّهُ يوماً أنّ الخارج، عربياً أم غربياً أم كليهما معاً، بقي مقرّراً في “حدود الدور اللبناني” عموماً و”رئاسة” البلد. وهذا كان في الجمهورية الأولى كما الثانية، مع فارق مثّلته التبدّلات الدولية.
لا يجهر التكتّل المسيحي السياسي المعارض لانتخاب سليمان فرنجية بأسبابه السياسية. ما يتسرّب من اعتراضات قائمٌ على أسباب مناطقية وشخصية. دعك من الحديث عن علاقة الرجل مع الرئيس السوري بشار الأسد، فهذه ذهب إليها الجميع زمن الرئيس حافظ الأسد. وميشال عون لحق بهم زمن الابن واصطفّ في محوره وقدّم ما قدّمه للنظام السوري من موقعه في رئاسة الجمهورية، إضافة إلى تبرير كلّ ما قام به هذا النظام إثر ثورة الشعب السوري.
الواقع غير المرئيّ
يُفترض بالذين رفعوا شعار معارضة فرنجية أن لا يكونوا سذّجاً إلى الحدّ الذي صدّقوا معه أنّ شعارهم متيسّر وسهل بسهولة إطلاقه، خصوصاً في ظلّ جوّ المنطقة العامّ، القائم على معادلة “تصفير المشاكل”، لا بل قل “التعاون” في شتّى المجالات لتحقيق استقرار عامّ. فضلهم الأوّل والأخير أنّهم حاولوا في الشكل الإصرار على “لبنانية” الاستحقاق، لكنّهم لم يكونوا منفردين، ذلك أنّ كلام فرنجية في بكركي كان واضحاً.
أصحاب شعار “ممانعة وصول فرنجية” إلى بعبدا يعرفون جيّداً وتماماً حدود تأثيرات السياسة الداخلية. ويعرفون أكثر أنّ الخارج على تنويعاته العديدة كانت له اليد الطولى في وجهات البلد، لأنّ كلّ الأوزان السياسية اللبنانية انتصرت بخارج ما. ولم يحصل أن وصل إلى رئاسة الجمهورية أحدٌ من دون توافق دولي. البعض منهم قضى ثمن اختلال المعادلات الخارجية. غيرهم راح ضحيّة محاولة نقل لبنان من معسكر إلى آخر.
الخصومة مع قدرات فرنجيّة
يعرف التكتّل ضدّ فرنجية أنّه محكوم بالتسوية، لكنّه يتّهم خصمه بمميّزات الأخير: حضوره عند المسلمين بثلاثيّتهم السُنّية والشيعية والدرزية، صداقاته العميقة مع الثنائي، وشائج علاقاته مع البيوتات المسيحية التقليدية، وهذه تسبب قلقاً عميقاً عند الأحزاب المسيحية والإسلامية على حدّ سواء. وقبل هذا وبعده عمق علاقاته منذ جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية مع سوريا.
عمليّاً هذه الاتّهامات هي حاجة لبنانية ماسّة ما دام الرجل تعهّد ويمكنه الوفاء بـ:
أ- ترسيم الحدود مع سوريا، وهذا ما لم يتحقّق منذ قيام لبنان الكبير، ولا مع كلّ الادّعاءات اللبنانويّة عن هزيمة النظام السوري في جبال صنّين وزحلة وقنات والأشرفية وحرب التحرير. حتى لحظة “14 آذار” السياسية بمعناها الوطني العريض أقصى ما استطاعت الوصول إليه هو تبادل سفارات بقيت مهزلة سياسية في ظلّ استمرار “المجلس الأعلى اللبناني ـ السوري”.
ب- إنجاز الاستراتيجية الدفاعية التي يطالب بها اللبنانيون جميعاً، وحزب الله لن يعطيها لغير فرنجية لما يمثّله الأخير عند الأوّل من “ضمانة” ولأنّه “لا يطعن بالظهر”. واعتبار أنّ فرنجية “لا يطعن بالظهر” فهذا ليس لمبدأ ينتقص منه، بل يؤكّد ما هو معروف عن الرجل من وضوح وثبات .
لا يعني عدم تكريس الاستراتيجية الدفاعية كمبدأ بشكل عاجل إلا العيش إلى الأبد مع المقاومة. ومتى تضاربت هذه “المقاومة” مع السلام والوفاق الداخليَّين والوجهة العريضة للعالم العربي، فعلينا أن نقبل طواعية ومن دون أن ننبس بحرف بـ “خيار المقاومة” وما خبرناه معها منذ ما بعد عام 2000 وانسحاب الجيش الإسرائيلي.
ج- قناعته الراسخة والعميقة بالعلاقة العضوية مع دول الخليج العربي. وهذه القناعة ليست سلعة انتخابية بقدر ما هي علاقة صاغها الجدّ بصدقية عالية وما انقلب عليها الحفيد مرّةً، إضافة إلى انفتاحه على الغرب وصياغته مع سفرائه في لبنان أفضل العلاقات. ولعشّاق الولايات المتحدة مراجعة عدد زيارة سفرائها في لبنان وعديد الوفد المرافق.
د- إعادة النازحين السوريين، وهي مشكلة عضوية يعاني لبنان من جرّائها تصدّعات تبدأ بتدخّل منظّمات المجتمع المدني (إن.جي.أوز)، ولا تنتهي عند الاختلالات الأمنيّة، ليس لأنّ اللاجئين هم بالضرورة مجرمون، بل لأنّ بيئات كهذه تؤصّل النزوع العنفي، علاوة على الأعباء الاقتصادية.
لن تتمّ إعادة النازحين بالشكل المناسب إلا مع سليمان فرنجية لأنّه “ضمانة” أيضاً للنظام السوري الذي يحاور كلّ العرب الآن. ولا يتوهّمنّ أحد أنّ المجتمع الدولي سيعالج هذا الأمر ما دامت منظّماته تعمل فعليّاً وبشكل حثيث على دمج هؤلاء في المجتمع اللبناني.
هـ- مسيحية سليمان فرنجية ومارونيّته العميقة التي ما خرج عليها يوماً، وعلاقته مع المسلمين وما يتمتّع به من مشروعية وصدقية اختبروهما معه بالمحن، تؤهّله حتماً لمناقشة هادئة في صلاحيات الرئاسة لأنّه “ابن الطائف” الذي كرّس المناصفة ونهائية الكيان وعروبته، وفي الأساس العيش المشترك الذي مارسه عن قناعة، مُحقّقاً جوهر “الإرشاد الرسولي” بأنّ “لبنان رسالة” في محيطه والعالم.
مع كلّ المتغيّرات الإقليمية والدولية، معطوفةً على عناصر القوّة التي يحوزها الرجل، ما يزال التكتّل الممانع لوصوله يتصرّف بدرجة هائلة من الثقة بأنّ شيئاً لم يتغيّر.
معنى المسيحيّة الأوضح
كان تصريح سليمان فرنجية في بكركي مُعبّراً. لم يردّ على سيل التسريبات واستسهال كراهيته. ذلك أنّ الردّ يعني تسعيراً للحرب الكلامية. ألم يتعلّم المسيحيون، قواهم النيابية وبعضها العسكري المُستتر على وجه الخصوص، من دروس الماضي؟
قال فرنجية بوضوح شديد بعد لقائه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي: “أنا مع أفضل العلاقات مع الدول العربية، وخاصة مع المملكة السعودية”، وأضاف: “سأعمل على استراتيجية دفاعية واقعية ضمن الحوار مع الجميع، وأنا قادر أن آخذ من المقاومة ما لا يستطيعه أيّ مرشّح آخر، وكذلك من سوريا”. كان صحيحاً ودقيقاً جدّاً تمسّكه بـ”الميثاقية” معتبراً أنّ البطريرك هو “أبو الميثاقية”.
أكّد رئيس تيار المردة أنّه “يسعى ويريد أن يكون مرشّحاً توافقياً”. أفضل ما قدّمه عن المسيحية هو قوله: “المسيحية تواضع وانفتاح ومسامحة وحوار”. الأهمّ أنّه قرأ بالاستدلال المعاكس لحظة انتخاب عون معتبراً أنّ “ما حصل في المرّة الماضية لم يكن وحدة مسيحية، بل وحدة ضدّنا”. قراءته لم تأتِ من فراغ. لقد صنعتها الكراهية الراهنة ضدّ الرجل.
حسناً، ما دمنا محكومين بالتسوية فلماذا يذهب هذا التكتّل بـ”مشاعر مذهبية” وعلى الضدّ من كلّ شيء سياسي إلى أبعد الحدود في صناعة العداوات وتكريس الانقسامات؟
هل تنبّه هؤلاء إلى احتمال أن تنجح المساعي في تحقيق توافق ما على وصول فرنجية إلى الرئاسة الأولى، ولو كان هذا الاحتمال ضئيلاً؟ فالتوافق مطلوب ومرغوب، لكن حين يحصل هذا التوافق هل يجد المعارضون ما يقوله بعضهم لبعض؟ هل يكون بعدئذٍ مكانٌ لحوار سياسي منتج وودّي بين “مناضل” و”عميل”؟ وبين “مسيحي” ومن وُضع عليه “الحُرُم المذهبي والسياسي”؟
أكلاف دفعتها “المسيحيّة السياسيّة”
الأرجح أنّ مثل هذا التوافق سيلجم الجميع عن الكلام. ولبنان في ظلّ انعقاد “التسوية” أو “اتفاق الضرورة” الذي تفرضه “المقاومة” واستمرار “النظام السوري” أيضاً سيخيّم عليه الصمت. إذ ما إن يفتح أحدٌ فاهُ سيُجبه بشعار واحد: عادت السويّة الدستورية، والمطلوب إخراج لبنان من الهاوية الاقتصادية والسياسية والأمنيّة التي سقط فيها.
اللبنانيون يريدون تحقيق “التوافق” و”التسوية” كائناً ما كان اسم الشخص. لكنّ أوزان القوى تبقى هي المقرّرة. وترك السياسة والذهاب نحو الشخصنة والمناطقية يعنيان طغيان السجال التخويني على البلد كلّه.
لقد دفعت “المسيحية السياسية” كلفة عالية ثمن مقتضيات اعتقاد البعض منها أنّ الخطأ لا يقربه من قريب أو بعيد، حتى لو ظنّ هذا البعض أنّ مقالة صحافية هي من بنات خيال صحافي وليست رسالة دولية. هذا حصل منذ كيسنجر وما تلاه. ومثاله الأخير كان مع انتخاب ميشال عون رئيساً.
يريد اللبنانيون حتماً أن ينسوا المواضي البغيضة والعودة إلى الاعتدال وانتخاب رئيس. لكنّهم في الطريق إلى تحقيق ذلك هناك من يجعل كلّ الكلام مُستحيلاً. لقد خسر اللبنانيون قدرتهم على الحوار والتحاور. تسوية اتفاق الطائف تقول ذلك. تفضحها أكثر فأكثر تسوية الدوحة، وشيءٌ من هذا القبيل في وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا.
اساس ميديا