طهران خبيرة في “الزمن” وما قد يحمله من متغيرات: صواريخ الممانعة والرسائل المشفرة
إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان على إسرائيل في 7 أبريل (نيسان) الحالي ليس هو الحدث الذي يستأهل الاهتمام الذي حصده، على الرغم من أنه الحادث الأخطر منذ حرب عام 2006. فإطلاق الصواريخ من الجنوب وردّ إسرائيل عليها يعود إلى سبعينات القرن الماضي عندما وقّع لبنان اتفاق القاهرة عام 1969، سامحاً بذلك للمنظمات الفلسطينية المسلحة النظامية وغيرها من مسلحين وميليشيات فلسطينية وأخرى تابعة لسوريا والعراق وليبيا استباحة أرض الجنوب اللبناني. هذا الحدث ليس بالجديد إذن، وهو نتيجة عدم وجود دولة، أو حكومة، ما جعل استباحة السيادة اللبنانية من جانبي الحدود أمراً عادياً، أقصى ما يستتبعها هو صيحات استنكار لبنانية من هنا وهناك، لا تلبث أن تخبو، تخترقها شكاوى رسمية إلى مجلس الأمن خاوية من المنطق، تطالب باحترام القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 1701. في الوقت الذي تعرف فيه الدولة اللبنانية وحكومتها وسياسيوها كافة أنه لا مسوغ للشكوى، لأن القرار لم يطبق يوماً من جانبها، والسلاح الفلسطيني كما سلاح «حزب الله» متفلت في الجنوب، من دون حسيب أو رقيب، رغم وجود القوات الدولية والجيش اللبناني.
المهم في حادثة إطلاق الصواريخ هي المعاني والدلالات المستخلصة التي تتجاوز البعد اللبناني الداخلي لتطول المناخ السياسي في المنطقة، بعد الاتفاق السعودي الإيراني. بالمباشر، هي تشير إلى فهم إيران وحلفائها وأدواتها السياسية والأمنية في دول ومناطق نفوذها لمفاعيل هذا الاتفاق، وعلى رأسهم أقوى أذرعها وميليشياتها، أي «حزب الله»، الذي باعتراف أمينه العام يعتبر جزءاً لا يتجزأ من منظومة إيران الأمنية خارج حدودها، ويأتمر بأوامرها. الحديث عن سيطرة الحزب على لبنان بعامة، وعلى مناطق قواعده الشعبية، وخصوصاً الحدودية منها، هو تأكيد المؤكد، وعليه يصعب بل يستحيل إطلاق هذا العدد من الصواريخ باتجاه إسرائيل من منطقة نفوذه الرئيسة من دون علمه. لا يختلف اثنان أن ما جرى حصل بموافقة الحزب وبركته، وتالياً بموافقة وبركة راعيه الرئيس طهران، ما يدفعنا للاستنتاج أن ثوابت السياسة الإيرانية في المنطقة منذ وصول الملالي إلى الحكم سنة 1979 قائمة على مبدأين…
المبدأ الأول هو عدم المواجهة المباشرة والسيطرة عبر وكلاء. أرست إيران نفوذها في بعض دول المنطقة عبر حلفاء من البيئات المحلية من صلب النسيج الوطني لهذه الدول، وهو على ما هو عليه من تفكك، وهم قوى وطنية مستقلة صديقة، تقول إنها حرة في قراراتها. هذا المبدأ أتاح لإيران تمرير ذريعة التبرؤ من ممارسات الحلفاء، مدعية التزامها الاتفاقات التي عقدتها بشكل كامل. «حزب الله» يحاكي سياسة الإنكار المعقول هذه التي تنتهجها إيران، ونفيه معرفته بعملية إطلاق الصواريخ يدخل في صلب سياسة الازدواجية التي يمارسها في لبنان على الصعد كافة وميّزت مسيرته منذ 40 سنة، وتقوم على القيادة من الخلف، أي الإمساك بالقرار دون تحمل تداعياته ومسؤوليته. الحزب يتمسك باتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لمصلحة البلدين معاً، والفوائد التي سيجنيها عبره، لكنه في الوقت نفسه ملتزم التضامن والدعم السياسي والأمني والعسكري لحركة «حماس» ومحور الممانعة تطبيقاً للمبدأ الذي أطلق عليه مسمى «وحدة الساحات». يعتمد الحزب الأسلوب والسياسة عينها في الداخل اللبناني، فتراه يدعو إلى الحوار والتفاهم كما يفهمهما بغية جني الحصاد الناتج عنهما من تعافي اقتصادي والإفادة الكاملة من أجواء التهدئة ومهادنة دول الخليج والانخراط ولو كلامياً بمشروعات الإصلاح والانتفاع من المساعدات العربية إذا وصلت، من دون أن يسقط فعلياً حرفاً واحداً من قاموسه.
المبدأ الثاني هو استخدام القضية الفلسطينية كحصان طروادة لتعزيز نفوذها في المنطقة من دون أن نحسم الجدل بشأن صدقية حكامها إزاء هموم الفلسطينيين من عدمه. تبنت طهران شعار كثير من الأنظمة العربية البائدة «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، واعتبرت أن حلّ القضية الفلسطينية يكمن بحذف إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط بالعمل العسكري المقاوم، وخونت كل من يغرد خارج تعريفها للمقاومة ضد إسرائيل.
اليوم، تحاول إيران إعادة البريق إلى توظيفها الموضوع الفلسطيني، وهي بالأساس رافضة للاتفاقات الإبراهيمية ومسار التطبيع وتعتبرها موجهة ضدها وتسعى قدر المستطاع إلى تجميدها والحد من توسعها والقضاء على الحلم الإسرائيلي بإنشاء جبهة إقليمية ضدها. حادثة الصواريخ وما سبقها وتلاها تؤكد وتبين أن الصواريخ تطوّق إسرائيل من 5 جبهات دفعة واحدة؛ لبنان، الضفة الغربية، غزة، الجولان، داخل تل أبيب خصوصاً. إنها رسالة إيرانية واضحة للإسرائيليين لا لبس فيها، تأتي في وقت تعتقد فيه طهران أن إسرائيل ضعيفة ومنهكة بسبب أحوال الداخل. الرسالة تحذيرية، لكبح جماح أي عمل قد يندفع إليه بنيامين نتنياهو ضد طهران بسبب نشاطها النووي، أو هرباً من أزمات الداخل أو الاثنين معاً. ومن دون أن نستبعد اعتبارها في إطار الرد على العمليات الإسرائيلية في الداخل الإيراني أو سوريا.
ومن البديهي أن تكون التوترات المستجدة مع إسرائيل على الجبهات، كما تركيبة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي اعتمدت مبدأ «حق الشعب اليهودي الحصري وغير القابل للمساومة في جميع أجزاء أرض إسرائيل» ومحاولاتها سن قوانين عنصرية وممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين، كلها تصب لصالح إيران وتقدم لها الحجج لتمددها وتدخلاتها. مختصر الصورة؛ أن نتنياهو الهارب إلى الخارج من أزماته الداخلية، كما هو الحال مع إيران، يتبادلان تقديم الخدمات، بعضهما لبعض، ولو عن غير قصد.
في غياب التوازن الإقليمي والتفكك الذي أصاب معظم دول المشرق العربية، تعيش المنطقة راهناً على وقع حرب الظل بين إسرائيل وإيران. أول ما يتبادر إلى الذهن هو؛ عن أي إسرائيل نتكلم؟ إسرائيل نتنياهو، أم إيتمار بن غفير وبتسلئيل سمورتيتش، أم يائير لبيد وبني غانتس، أم باختصار شديد تل أبيب أو القدس، وهذه أهم الإشكاليات في هذه المرحلة.
مهما تكن الأجوبة، لا شك أن إسرائيل غادرت مقعدها الخلفي في مواجهة تهديد إيران النووية، وباتت تعتمد معادلة جديدة تقوم على استهداف إيران بشكل مباشر، لا أذرعها فقط. من جهة أخرى، إذا أراد نتنياهو توسيع اتفاقيات إبراهيم، فذلك يتطلب إدارة ذكية منفتحة للمسألة الفلسطينية، وهو ما يرفضه أو قد يعجز عنه بعد تحالفاته المجنونة مع متطرفين يبدو أن لديهم أجندة مختلفة قد تشكل عبئاً إضافياً لنتنياهو، فهم يطرحون قضية القيم المشتركة التي كانت وستظل الركيزة الأساسية للعلاقة بين واشنطن وتل أبيب.
أما في الجانب الإيراني فمن غير المتوقع أن تغيّر طهران وضعها بين ليلة وضحاها، إنما يتطلب ذلك وقتاً، وطهران خبيرة في الرهان على الزمن وما قد يحمله من متغيرات. لم يزل الوقت مبكراً للتنبؤ بمسار الأمور، لكن بالمقارنة بين حادثة الصواريخ اللبنانية والمحادثات التي شهدتها اليمن بين وفد سعودي – عُماني والحوثيين في صنعاء وما تلاها من إعلان الخارجية الإيرانية عن أملها أن «تساعد المتغيرات التي تشهدها المنطقة على وقف إطلاق النار باليمن بشكل مستمر تمهيداً لمسيرة سياسية مستدامة» ونجاح عملية تبادل مئات الأسرى بين الحوثيين والحكومة اليمنية، يبدو أن المشرق بعامة ولبنان بخاصة سيبقى راهناً على المقعد الخلفي، ولن تصيبه قريباً رياح التغيير التوافقية التي تعم المنطقة.
سام منسى- الشرق الاوسط