عبثية المعطلين… على قاعدة “من بعدي الطوفان”!
أمّا وقد باتت الانتخابات البلدية والاختيارية بحكم الواقع مؤجلة إلى تاريخ غير معروف بعد، فإن المثير للريبة هو مواقف الكتل النيابية التي ترفض المشاركة في جلسة تشريعية لإصدار قانون التمديد لعمل المجالس البلدية والمختارين الأمر الذي قد ينعكس تعطيلاً لشؤون المواطنين الذين انتخبوا هؤلاء النواب ليقفوا على مصالحهم ومصلحة البلاد العليا.
وتقاذف المسؤوليات عن تعطيل هذه الانتخابات بين الكتل النيابية وحكومة تصريف الأعمال تزيد الطين بلة، إذ أياً كان المسؤول عن التعطيل فإن النتيجة واحدة وهي المزيد من انهيار المؤسسات الدستورية وتحويل البلاد إلى “حارة كل مين إيدو إلو” كما لو أن العبثية التي تحكم مواقفهم أصبحت إثباتاً على عدم مسؤوليتهم وعدم جدوى وجودهم في المواقع التي يحتلونها.
والتعطيل مسار اعتمده “التيار الوطني الحر” منذ عودة رئيسه ميشال عون من المنفى في العام 2005، ومن ينسى مواقفه الشعوبية ولغة “من تحت الزنار” عند كل مفصل دستوري خصوصاً في تشكيل الحكومات؟ فمقولة “لعيون صهر الجنرال” أضحت مثلاً يحتذى عند كل محاولة لتشكيل حكومة جديدة.
ومنذ العام 2014 عقب انتهاء ولاية الرئيس الأسبق ميشال سليمان وتولي حكومة الرئيس تمام سلام الدستورية والشرعية صلاحيات الرئيس وكالة، كان “زعيم” التعطيل النائب جبران باسيل وزيراً في هذه الحكومة، فاعتبر أن كل وزير في حكومة الرئيس سلام هو رئيس للجمهورية ويجب على أي قرار تتخذه الحكومة أن يكون ممهوراً بتوقيع كل الوزراء.
ناهيك عن شروط باسيل، فالتعطيل الأكثر سطوعاً كان النهج الذي اعتمده فريق الثنائي الشيعي ومن يدور في فلكه في تعطيل جلسات انتخاب رئيس للجمهورية، فشلّت البلاد لما يقارب العامين ونصف العام قبل أن ترتكب “القوات اللبنانية” غلطة العمر بالموافقة على سحب ترشيح قائدها سمير جعجع لصالح ميشال عون الذي انتخب رئيساً، فكان ما كان في “العهد القوي” الذي أطاح بمعظم مقومات الدولة وبنيانها على قاعدة معادلة “الفساد مقابل السلاح”.
واليوم لا ينفك الفريق نفسه عن الامعان في التعطيل مرشحاً شخصية مارونية عريقة لكنها غير مقبولة من معظم المسيحيين في البلد ولا تحظى بقبول الفريق السيادي، والفريقان يهددان باللجوء إلى التعطيل لمنع انتخاب مرشح تحدٍ.
إن العبثية التي يتعاطى بها فريق التعطيل المزمن خرّبت البلاد وشلّت مؤسساته وانعكس ذلك على معيشة المواطنين ولم يبق من مؤسسات منتخبة دستورياً إلآ مجلس النواب المنقسم على بعضه من دون أكثرية واضحة، والمجالس البلدية والمختارين الذين يشكّلون العصب الحي لمعاملات المواطنين.
تأجيل الاستحقاق البلدي يجب أن يحصل من خلال تشريع قانون في المجلس النيابي، يؤجل الانتخابات إلى موعد جديد لكن الأهم أن يمدّد عمل المجالس البلدية والمختارين للفترة نفسها.
وبدأت حملة المزايدات الشعبوية لتبرير التأجيل والتمديد تصدر من هنا وهناك، غير أن ما هو غير مقبول أن تبادر كتلة نيابية وازنة إلى المجاهرة بعدم المشاركة في جلسة تمديد عمل المجالس البلدية والمختارين، لأن في ذلك إمعاناً في ضرب حياة المواطنين وخصوصاً أولئك الذين انتخبوا أعضاء هذه الكتلة.
قد تكون الحجة التي استخدمتها كتلة “الجمهورية القوية” من الناحية الدستورية لعدم المشاركة في أي جلسة نيابية للتشريع قبل انتخاب رئيس للجمهورية مقبولة قانوناً ودستورياً، غير أنها لا تصرف من حيث توقف عمل المختارين عند انتهاء ولايتهم وبالتالي انعدام قدرة أي مواطن على تقديم طلبات الاستحصال على إخراجات قيد أو جوازات سفر.
هل في هذا الموقف ما يبرّر تعطيل حياة المواطن المقهور والمغلوب على أمره؟ ليست كتلة “الجمهورية القوية” وحدها من أعلن معارضة التمديد والسؤال موجه الى بقية الأطراف السياسية المعارضة للتمديد.
النداء الأول والأخير هو إلى السادة النواب لكي يتفضلوا بالقيام بأولى موجباتهم الدستورية وهي الاجتماع تحت قبة البرلمان لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهذا أمر مفروغ منه، لكن النداء أيضاً موجه الى السادة النواب أنفسهم لكي يتفضلوا بتسهيل حياة المواطن على الأقل من الناحية الادارية التي تربطه بالدولة المركزية وذلك بعدم وقف أعمال المختارين والتمديد لولايتهم إلى أن يأتي الله أمراً كان مفعولاً.
لم تعد العبثية التي يتصرف بها نواب الأمة مقبولة، والمسؤولية تقتضي أن يتعالوا عن الشعبوية التي تحدّد عملهم النيابي والسياسي والنظر إلى المصلحة العامة ومصلحة المواطنين قبل أي شيء آخر، فيكفي ما حلّ باللبنانيين نتيجة أداء غير سوي من منظومة سياسية أحكمت قبضتها على حياتهم وجعلتهم فدية يقدمونها على مذبح مصالحها الذاتية على قاعدة “من بعدي الطوفان”.
صلاح تقي الدين