ملف النزوح “موسمي”: ورقة ضغط ومـساومة وابتزار… وخطره باق ويتمدد !
تظهير النزوح السوري سياسياً وأمنياً واقتصادياً يحمل، في توقيته، كثيراً من علامات الاستفهام، وإن كان مبعثها محقاً. وسط سؤال محوري: أي قدرة لدى اللبنانيين، إفرادياً، على تجاوز تطور النزوح في غياب السلطة المركزية؟
منذ اندلاع الحرب السورية، تتأرجح قضية النازحين السوريين، تقدماً وتراجعاً في المشهد اللبناني، بحسب الظروف التي تملي التعاطي مع هذا الملف، إما بتأجيجه أو بالتغاضي عنه. إلا أن السنوات التي أعقبت النزوح، وما رافقها من تدهور اقتصادي وتوترات سياسية وانفلاش أفقي غير مسبوق للنازحين، غيّرت كثيراً من النظرة إلى طبيعة الوجود السوري، ما خلا إلصاق تهمة العنصرية الجاهزة بكل من يتناول ملف النزوح بغير ما ترتأيه الجهات المانحة وجمعيات المجتمع المدني والدول التي ترفض استقبال النازحين.
في الأسابيع القليلة الماضية، أطلّ الملف مجدداً من أبواب عدة. إذ عادت الجمعيات التي تتمدّد في المناطق إلى تفعيل نشاطها في مجمعات النازحين، وإلى تقديم إغراءات واضحة للسلطات المحلية لمنع التعرض لهم، وتجددت المقاربات الغربية التي تسعى إلى تثبيت وضع النازحين عبر تعزيز دفع المال مقابل إبقائهم حيث هم، مع الإشارة إلى أن هناك دولاً، كالدنمارك والمجر، تسعى بجدية إلى تغيير المقاربة الأوروبية لهذا الملف عبر ضرورة دعم عودة النازحين إلى المناطق الآمنة في بلادهم.
في ظل غياب تام للسلطة اللبنانية، فُتح ملف النازحين مجدداً، في الآونة الأخيرة، في أكثر من منطقة، انطلاقاً من وقائع سياسية وأمنية، وأيضاً اقتصادية كما عبّر عنها أخيراً البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. وفيما تتحدث أرقام غير علنية تقدمها جمعيات عن مليونين و800 ألف نازح سوري في لبنان، تشير معلومات إلى أن عدد المليونين الذي تعتمده الأجهزة الرسمية لا يزال هو نفسه منذ نحو ست سنوات، وهذا ليس منطقياً مع تبدّل المعطيات الديموغرافية على الأرض. وفيما يتعذر إجراء إحصاء دقيق، فإن هذا يعني أن عدد النازحين السوريين وحدهم بات يشكل أكثر من نصف عدد اللبنانيين المقيمين، والمقدر في أقصى أحواله بأربعة ملايين. وهذا وحده عنصر ضغط على أي دولة في العالم، فكيف في لبنان، حيث للأعداد تداعيات طائفية، وتتحول دوماً محور مشادات سياسية، كما حصل أخيراً في الحديث عن عدد المسيحيين في لبنان، خصوصاً أن قوى سياسية تعتبر أن فتح الملف السوري اليوم يأخذ هذا المنحى الابتزازي، تتمة للحديث عن المادة 95 من الدستور وإلغاء الطائفية السياسية، التي تفتح عند كل استحقاق مفصلي.
بداية، لا يمكن تغييب العنصر السياسي عن تظهير متجدد لإشكالات تتعلق بالنزوح مالياً واجتماعياً وعلى مستوى الأحداث التي يتورط بها سوريون. فمع ترويج الثنائي الشيعي لاسم رئيس تيار المردة سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، جرى الحديث عن ملف النازحين وقدرة فرنجية على الحوار مع الرئيس بشار الأسد لتأمين عودتهم. أما إقليمياً، فتدخل عودة النازحين من ضمن بنوده كل ما يجري من مفاوضات عربية، فيما لبنان غائب كلياً عن مواكبة هذه المفاوضات، لغياب السلطة القادرة على أن تكون على الطاولة فعلياً.
عملانياً، أخذت قضية النازحين أبعاداً جديدة في الأسابيع الماضية، مع زيادة الحديث في البقاع والجنوب، وبين شخصيات فاعلة سياسية وإدارية، في موضوع النازحين السوريين. وتعزز ذلك في غير منطقة بدأت ترفع الصوت إزاء تمدد السوريين وتوسع شبكة أعمالهم وتجاراتهم. وظهر العامل الاقتصادي، للمرة الأولى، بهذه الحدة، كعنصر ضغط في مختلف المناطق، علماً أن هناك مناطق تتمتع بقدرة ذاتية على تأمين الأمن وتحقيق رقابة أكثر فاعلية من غيرها. فيما أُتخمت مناطق استسهل السوريون الدخول إليها في السنوات الأولى من الأزمة، لقربها من الحدود، بقاعاً وشمالاً، فانتقلوا إلى الداخل، وبدأوا تكوين تجمعات شعبية، ليس في مخيمات وإنما في مجمّعات سكنية وتجارية مستأجرة. وهنا، تقع المسؤولية، في الدرجة الأولى، على سلطات محلية وبلديات يتهم كثير منها بالتواطؤ مع جمعيات أممية ومحلية وغضّ النظر عن ارتكابات، وعن تمدد النازحين وتوسّع أعمالهم، تحت وطأة ترغيب بالمساعدات. وتقع المسؤولية ثانياً، بحسب أمنيين، على اللبنانيين أنفسهم الذين يستفيدون مالياً من خدمات السوريين وتوسع أعمالهم وإقامتهم.
قوى سياسية تعتبر أن فتح الملف السوري اليوم يأخذ منحى ابتزازياً
وفي حين تتحدث القوى الأمنية عن ارتفاع نسبة الجنح والجرائم التي ترتكب على أيدي سوريين، من دون أن يكون الاتهام معمماً على مجتمع النازحين، تواجه الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الكثير من التحديات في مواجهة أزمة النزوح. والمعطيات تختلف عن قدرة الأجهزة على مواكبة التمدد الفعلي لمجمعات النازحين في مناطق باتت تتكل على أعمال هؤلاء وتجاراتهم. وباتت ملاحقة التجمعات «غير الشرعية»، كذلك، تحدياً للأجهزة العسكرية والأمنية غير القادرة عملانياً على ملاحقة هذه التجمعات التي تنفلش في صورة عشوائية، معززة بآليات ودراجات بات معروفاً لدى الأجهزة بأنها تشكل مصدر قلق أمني. فيما قرار ضبط هذه الظواهر ليس أمنياً بحتاً، بل قرار سياسي لأنه يستهدف مناطق واسعة باتت عملياً محكومة بإدارة اقتصادية وتجارية وصناعية لمجموعات سورية فاعلة.
يصعب تجاوز العامل الاقتصادي كعنصر ضاغط يولد الانفجار بين مجتمعات لبنانية وسورية، وهذا الأمر يشكل ورقة ضغط ومساومة قابلة للاستعمال في أي لحظة مطلوبة. لكن هذا لا يعني أن وقائع الانفلاش داخل المناطق، ليست مختلفة عن معطيات النزوح الفعلي نتيجة الحرب السورية. والتعاطي السياسي مع ما يجري من ظواهر أمنية واقتصادية ومالية لها صلة بالنزوح السوري، لم يكن منذ أن اندلعت الحرب على مستوى خطورة ما كان متوقعاً أن يحصل من تداعيات. لا الثنائي الشيعي ولا التيار الوطني الحر حققا من موقعهما، أكثر من اتهام المعارضة اللبنانية بتغطية النزوح، ما كان يفترض أن يمنع الانزلاق نحو مجتمع سوري، فتيّ جديد، داخل مجتمع لبناني، مع كل ما يمثله ذلك من متغيرات على مستويات تؤثر في البنية اللبنانية. ولا الحكومة الحالية تتصرف على مستوى الحدث بأن هناك تحولاً يتعلق بالنزوح يفترض التعامل معه بأهميته. لذا سيبقى ملف النزوح موسمياً، يستخدم حين تدعو الحاجة، فيما خطره باق ويتمدد من منطقة إلى أخرى.
هيام القصيفي- الاخبار