الهروب إلى الأمام مجدداً ودائماً: تقطيع الوقت 3 أشهر إضافية!
الاستنتاج الذي توصل إليه الفريق الدولي- العربي الخماسي، المعني بالملف اللبناني، هو أنّ قوى السلطة في لبنان لا تريد إقرار أي إصلاح، أياً كان شكله، لأنّه يعني نهاية نفوذ هذه القوى وسيطرتها على مقدّرات البلد. ولذلك، هي تراوغ وتناور في مختلف الاتجاهات لإمرار الوقت، لعلّ الظروف تسمح بإنتاج التسوية التي تحفظ وجودها ومصالحها.
في اقتناع كثيرين، أنّ من العبث أن يبتكروا الأفكار لتسوية الأزمة في لبنان، لأنّ منظومة السلطة سترفضها تحت ذرائع مختلفة. فمشكلة هذه المنظومة ليست في عدم قدرتها على إقرار خطة إنقاذية، بل في عدم رغبتها في ذلك.
فقبل انفجار الأزمة، في 17 تشرين الأول 2019، تلقّى فريق السلطة تحذيرات متتالية من مغبة الاسترسال في النهج المالي والاقتصادي والإداري والسياسي السائد. وأبرزها تلك التي وجّهها بيار دوكان، الموفد الفرنسي المكلّف متابعة مؤتمر «سيدر» عام 2018، قبل المؤتمر وخلاله وبعده. إذ أكّد أنّ المجتمع الدولي لن يقدّم إلى لبنان أي مساعدات جديدة ما لم يلتزم الإصلاح، وأبلغ الجميع أنّ لبنان مقبل بالتأكيد على الانهيار.
وقد طرح دوكان في فترات مختلفة أفكاراً يمكن أن تجنّب لبنان الكارثة، ومنها إجراء تعديل مقبول على السعر المعتمد رسمياً للدولار، فيصبح مثلاً 1800 ليرة بدلاً من 1500. وقبل الانهيار، ربما كان هذا الإجراء كفيلاً بتجنيب البلد ما حلّ به من كوارث. كما طالب بترشيق الإدارة وتصحيح سلوكيات مصرف لبنان المالية والنقدية. وفي أي حال، كان العارفون من رجال المال والسياسة يدركون أنّ الكارثة واقعة حتماً.
لم يستجب المسؤولون للتحذيرات. وما فعلوه حينذاك هو أنّهم أرسلوا رئيس الحكومة سعد الحريري في جولة شملت فرنسا والإمارات العربية المتحدة، طلباً لـ»النجدة» بفتح حنفية المساعدات فوراً. لكن «الكلمة السرّ» كانت قد وصلت إلى الجميع في الغرب والشرق: إنتهى زمن الدلع اللبناني!
بعد 17 تشرين، تكرّرت المحاولات الدولية والعربية، فيما كانت غضبة الناس تعمّ الشارع. لكن منظومة السلطة اعتمدت نهج المماطلة والمراوغة، سواء في تعاطيها مع المجتمع الدولي أو مع اللبنانيين الغاضبين، وأوجدت الطرق المناسبة لإحباط الجميع.
طوال 3 أعوام ونصف العام، بقيت المنظومة تراوغ في مقاربة مطالب الإصلاح. وعندما تبلّغت أنّ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي هو شرط لازم لتحصيل المساعدات العربية والدولية، ناورت بمفاوضات شكلية طويلة معه، ثم وقّعت اتفاقاً مبدئياً، لكنها عملياً لم ترغب في الاستجابة إلى أي بند إصلاحي. فالإصلاح بالنسبة إلى هذه المنظومة يعني كشف فسادها وإنهاء دورها، بل إحالة العديد من أركانها إلى المحاكمة.
طروحات المجتمع الدولي لإخراج لبنان من المأزق واضحة. وكان يُفترض أن تبدأ بتدابير مالية ونقدية واقتصادية منذ اللحظة الأولى لوقوع الانهيار، كالكابيتال كونترول واستعادة الأموال المهرّبة ووضع ضوابط واضحة وشفافة لتدخّل المصرف المركزي في السوق وحماية أموال المودعين. تليها خطوات إصلاح سياسية وإدارية، كإقرار موازنات شفافة ووقف التهريب والتهرّب الضريبي ومراقبة مسارات الهدر في القطاعات كافة، ولاسيما في مجال الكهرباء.
ولكن، عملياً، من حكومة الحريري إلى حكومة حسان دياب فحكومة نجيب ميقاتي، بقيت منظومة السلطة تتهرّب من أي التزام، وتطلق الوعود الفارغة بالإصلاح. وهذا الأمر دفع الجهات المانحة إلى إبقاء لبنان على رصيف الانتظار بلا مساعدات، وقد يدفع صندوق النقد الدولي أيضاً إلى الابتعاد عن لبنان الميؤوس منه إصلاحياً.
في الخلاصة، تدرك منظومة السلطة أنّ طبيعة المشكلة القائمة سياسية من البداية حتى النهاية، وأنّ القوى الدولية والإقليمية يمكن أن ترفع حصارها وتعيد ضخ المساعدات إلى لبنان لمجرد أن يشمله التوافق الدولي- الإقليمي. ولذلك، لا تستعجل المنظومة تقديم رأسها في عملية الإصلاح ما دامت تتوقع إنجاز تسوية حول لبنان عاجلاً أو آجلاً.
ويتحدث بعض أركان السلطة بسخرية عن الإصلاحات التي تنادي بها الدول الراعية ويطالب بها صندوق النقد، ويقول: أنظروا إلى الدول التي تتدفق عليها المساعدات الدولية اليوم، والتي نجحت في الحصول على قروض من صندوق النقد، هل تتمتع حكوماتها فعلاً بالشفافية المطلوبة، وهل نجحت في امتحان الإصلاح، أم إنّ الإصلاح هو مجرد ذريعة أو ورقة ضغط لتحقيق غايات سياسية؟ وفي المناسبة، في الانفتاح العربي على دمشق، أين صارت الاتهامات التي تمّ توجيهها إلى النظام في ما مضى؟
بناءً على هذه الرؤية، يواصل أركان السلطة في لبنان اعتماد سياسة تقطيع الوقت والمراوغة في مسألة الإصلاح. وفي اعتقادهم أنّهم سيحصلون على «العفو» في النهاية، ولا داعي للقلق أو الاستعجال. وكل ما في الأمر هو أنّهم يراهنون على اقتراب تسوية سياسية لا بدّ أن تتحقق يوماً بين القوى الدولية والإقليمية، وتنعكس انفراجاً تجاه لبنان واركان السلطة فيه.
ويتداول بعض أركان السلطة تقديرات باكتمال عقد التسوية في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة، أي إنّهم يعتقدون بأنّ التسوية في لبنان آتية في مركب التسويات التي يجري تجهيزها لليمن والعراق وسوريا. وفيها سيأخذ كل طرف ويعطي، ويخرج الجميع راضياً.
في الانتظار، لا تفعل السلطة سوى تقطيع الوقت بتدبير بعض الدولارات من هنا وهناك. وكما دائماً، هي تريد تجميد انهيار الليرة بالاستفادة من بعض مليارات يرشها المغتربون والسياح في فترة الأعياد، أو في مطلع الصيف، وتقدّر بثلاثة مليارات دولار أو أربعة. وإذا اقتضى الأمر بإنفاق أجزاء إضافية من الاحتياط، أي أموال المودعين.
إنّه الهروب إلى الأمام مجدداً ودائماً. وبعد ذلك، لكل حادث حديث.
طوني عيسى- الجمهورية