نقص فيتامين “د” جائحة مرعبة يفاقمها عدم التعرض للشمس
يعاني مليار شخص في العالم نقص فيتامين “د” فيما تعتبر مستوياته متدنية لدى نصف سكان العالم، وتلامس الوضعية المرضية لديهم.
ترد تلك الأرقام المفزعة التي ترسم ظاهرة نقص فيتامين “د” على هيئة تشبه الجائحة، في دراسة نشرتها “المجلة الطبية البريطانية” British Medical Journal في 2021. وتورد تلك الدراسة أن انتشار نقص فيتامين “د” في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط، يتراوح بين 20 و90 في المئة، مشيرة إلى أن صورة مماثلة ترتسم في أستراليا والهند وأفريقيا وتركيا ولبنان وأميركا الجنوبية.
ويعرف نقص فيتامين “د” بأنه انخفاض مستوياته في الدم إلى ما تحت 20 نانوغراماً في الملليمتر، فيما يعتبر تدنيه مرضياً حينما يصل إلى مستوى 12 نانوغراماً في الملليمتر.
وبالنسبة إلى انتشار نقص فيتامين “د” بين البالغين، تتحدث الدراسة عن معاناة 68 في المئة منهم في دول جنوب آسيا فيما يصل المعدل نفسه إلى 40 في المئة في أوروبا. وتجدر الإشارة إلى أن الدول الثماني المكونة لجنوب آسيا [بنغلاديش والهند وباكستان والنيبال وبوتان والمالديف وسريلانكا وأفغانستان] تتشارك بعض السمات الإثنية والثقافية، لكنها تتفاوت في اللغة وممارسات اللباس المستند إلى الدين، وعادات الغذاء والسمات البيئية العامة وغيرها. والأهم من ذلك أن الدول الثماني تتشارك في مدى معاناة الأمراض التي تترافق مع انتشار النقص في فيتامين “د”، سواء مباشرة كالكساح وهشاشة العظام، أو غير مباشرة على غرار مرض السل لأن جرثومته يسهل عليها أن تضرب أجساداً ضعفت مناعتها بأثر من نقص فيتامين “د”.
في المقابل، أظهرت تلك الدول تفاوتات في مستويات نقص فيتامين “د”، وجاءت النسبة الأعلى في باكستان (73 في المئة)، وسجلت أدناها في بنغلاديش (48 في المئة). واستكمالاً، سجل انتشار نقص فيتامين “د” بين جموع السكان، وليس البالغين وحدهم، النسبة الأدنى في باكستان والهند وبنغلاديش، وقد أرجعت الدراسة ذلك الأمر إلى تقارب تلك المجاميع السكانية في معدلات التعرض للشمس، ليس بالمعنى الجغرافي وحده، بل أيضاً الممارسات المتصلة باللباس. وكذلك اقتبست الدراسة نفسها تقريراً لـ”البنك الدولي” في عام 2020، يلاحظ أن نسبة النساء في القوى العاملة تصل إلى 24 في المئة في دول جنوب آسيا. ووفق الدراسة فإن معدل المكوث في المنازل بعيداً من الشمس وعادات الملابس المتصلة بالنساء قد تفسر نسبياً التقاربات والتفاوتات في المعدلات المسجلة عن نقص فيتامين “د”. واستطردت الدراسة نفسها لتشير إلى أن أموراً مماثلة قد تفسر معدلي انتشار نقص فيتامين “د” بين السكان في إيران (56 في المئة) والصين (70 في المئة).
وبالتالي، خلصت الدراسة إلى ضرورة التنبه إلى العلاقات المتشابكة التي تربط نقص فيتامين “د” مع عوامل البيئة والثقافة والاجتماع والاقتصاد.
واستناداً إلى تلك المعطيات يصعب عدم نقاش علاقة انتشار نقص فيتامين “د” أو عدم كفايته، مع تصاعد ميل العمران البشري إلى التمركز في المدن والحواضر الكبرى، على حساب سكنى الأرياف والمناطق غير الحضرية. هل هنالك أمر مشابه يحصل في الدول العربية، خصوصاً أن سكنى المدن يترافق مع وظائف “تهرب” بطبيعتها من الشمس، بمعنى أنها تخفف التعرض لها بشكل كبير نسبياً؟ وقد يذهب التفكير أيضاً إلى أن انتشار أطعمة “الفاست فود” التي تحتوي دهوناً لا تحتوي على فيتامين “د” ولا تسهل عملية تركيبه في الجسم يسهم في انتشار البدانة التي تؤثر سلبياً بصورة عامة في مستويات فيتامين “د”.
إشكالية سكنى المدن وتطور العمران البشري
تستلزم الإجابة عن تلك الأسئلة إجراء مسوحات سكانية واسعة في الدول العربية عن مدى انتشار نقص فيتامين “د”، وتدني مستوياته مرضياً. وبصورة عامة تغيب تلك المسوح وأرقامها. في المقابل، تتوفر بحوث طبية وصحية كثيرة عن تلك الظاهرة، نهضت بها جهات جامعية وبحثية متنوعة. وفي المساحة المفتوحة بين البحوث والمسوح السكانية تغيب الأرقام عن نقص فيتامين “د” أو تدنيه عن مواقع على الإنترنت يفترض أن تهتم بها، على غرار الموقع الشبكي للجامعة العربية والموقع الإلكتروني الذي أنشأته “الإسكوا” قبل سنوات قليلة، لتجميع الأرقام عن أحوال الدول العربية.
في ملمح مغاير، تبرز مجموعة من الدراسات التي انخرطت فيها جامعات ومؤسسات عربية بالتعاون والمشاركة مع مؤسسات علمية عالمية.
إذ تقدم دراسة علمية نشرتها “الجمعية الأوروبية لعلوم الغدد الصماء” European Journal of Endocrinology في عام 2019 نموذجاً عن ذلك النوع من الدراسات المتعددة الروافد. وتناولت الدراسة وضعية فيتامين “د” في أوروبا والشرق الأوسط، ونهضت بها مؤسسات علمية عالمية، على غرار “منظمة الصحة العالمية”، فيما تمثلت الأوروبية في مؤسسات تضمها “الجمعية الأوروبية للأنسجة المتكلسة” التي يشير اسمها إلى اهتمامها بالأشكال المختلفة لوجود فيتامين “د” في الجسم، مع تشديدها على الدور الذي يؤديه في إدخال ونشر الكالسيوم في أنسجة الجسد كلها. وجاءت المساهمة العربية عبر مشاركة متفردة لـ”المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت”.
ووفق تلك الدراسة ينتشر نقص فيتامين “د” في أرجاء شتى من أوروبا بمعدل يتراوح بين 30 و60 في المئة من السكان، فيما يصل انتشاره في بلدان الشرق الأوسط إلى قرابة الـ80 في المئة منهم. ورصدت الدراسة أن النقص الشديد في فيتامين “د” يطاول أكثر من 10 في المئة من الأوروبيين، فيما يتوقع أن تكون أرقامه أعلى بكثير في دول الشرق الأوسط.
وفي السياق نفسه، عرفت تلك الدراسة الشرائح الأكثر تعرضاً لنقص فيتامين “د” أو تدنيه بأنها تشمل الأطفال الصغار والمراهقين والحوامل وكبار السن (خصوصاً من لا تحتضنهم دور رعاية متخصصة) والمهاجرين الآتين من غير البلدان الغربية.
وكذلك شددت الدراسة على أهمية إرساء برامج ثابتة ومستمرة حول تعزيز الأغذية بفيتامين “د”، خصوصاً مشتقات الحليب من الأجبان والألبان وغيرها، إضافة إلى الحبوب والبقول وأغذية الأطفال وسواها. وكذلك أوصت الدراسة بإعطاء المجموعات المعرضة لخطورة معاناة نقص فيتامين “د” إمدادات مستمرة وثابتة من فيتامين “د”، تحديداً الرضع والأطفال تحت سن السنوات الثلاث وكبار السن والمهاجرين الآتين من دول غير غربية.
واستكمالاً، يلاحظ أن الاتحاد الأوروبي أرسى برنامجاً لنشر مكمل غذائي يحتوي على 10 آلاف وحدة معيارية من فيتامين “د”، يؤخذ على هيئة حبة كل أسبوع. وفي غير بلد عربي يشيع تناول تلك الحبوب، لكن رصد تلك الممارسة وتأثيرها يحتاج إلى دراسات موسعة.
وفي إطار الدراسات العربية أيضاً، مع ملاحظة الفارق بين الدراسات الطبية والمسوحات السكانية حول الأمراض، تبرز مثلاً تلك الدراسة التي أجرتها جامعة القاهرة في 2013 عن “العلاقة المعقدة بين فيتامين (د) والشمس”. وتضمنت مراجعة واسعة للمعلومات والإحصاءات حول ذلك الموضوع، مع تركيز على التفاعل بين المصادر الغذائية والجلد الذي يؤدي دوراً حاسماً في تحويل المواد المتوفرة في المصادر الغذائية إلى الشكل الفاعل للفيتامين في الجسم. وقد استهلت تلك الدراسة بلفت الأنظار إلى البعد البيئي في مسألة نقص “فيتامين الشمس” عن الأجساد حتى في المناطق الجغرافية التي يفترض أنها تتعرض للضوء بكثافة على مدى العام. وتستعيد الدراسة أن المؤرخ الإغريقي هيرودتس ربط بين صلابة عظام المصريين وتعرضهم للشمس منذ الطفولة.
مصادر طبيعية وأخرى تصنعها الحداثة
في 2007 رصدت دراسة نشرتها “نيوإنغلاند جورنال أوف ميدسن” New England Journal of Medicine أن تقوية معظم الأغذية الأساسية في الولايات المتحدة بفيتامين “د” أدت إلى تراجع معدلات الكساح والمشكلات الصحية الكبيرة المرتبطة بنقص ذلك الفيتامين، لكن سرعان ما بينت الإحصاءات الطبية أن ذلك الانطباع ليس دقيقاً، والنقص في الفيتامين أمر مستمر.
وبصورة عامة، ثمة ثلاثة مصادر لفيتامين “د” هي الشمس والغذاء والمكمل الغذائي.
ومن دون الدخول في التفاصيل التقنية المعقدة لعملية صنع فيتامين “د” في الجسم، يجدر التركيز على أن ذلك يحصل عبر تفاعل بين ثلاثة أعضاء رئيسة هي الجلد [أضخم عضو مفرد في الجسم] والكبد والكلى. ويتضمن ذلك التفاعل مساهمات متنوعة من مجموعة من الهرمونات داخل الجسم، إضافة إلى التفاعل الأساسي بين الجلد والشمس الذي يعتبر عنصراً محورياً في مدى توفر فيتامين “د” بأشكاله الفاعلة داخل الجسم. ويعني ذلك أن تفاعلاً مستمراً ومتشابكاً يحدث بين البيئة التي تحدد مدى توفر الشمس، والمجتمع الذي يرسم شكل تعرض الجسم للشمس عبر عادات اجتماعية وثقافية متنوعة، والنظام الاقتصادي والسياسي الذي يحدد توفر مصادر الغذاء للناس وتوزعها على الطبقات والشرائح المختلفة.
وتبرز أهمية البعد الاجتماعي مع تذكر أن المصادر الطبيعية لفيتامين “د” تتركز في البيض والأسماك وكبد البقر والمواشي وغيرها، مع التشديد على أن زيت السمك يعتبر من أكثف مصادر ذلك الفيتامين [ويتوفر كمكمل غذائي في كبسولات وتراكيب متنوعة]، فيما لا يحتوي زيت الزيتون بحد ذاته على فيتامين “د”. وقد تبدو المعلومة الأخيرة مدهشة بالنسبة إلى كثيرين، بالنظر إلى شهرة القيمة الغذائية العالية لزيت الزيتون وأدواره الصحية المتنوعة. وينجلي الأمر مع تذكر أن زيت الزيتون يسهل امتصاص الأشكال الغذائية المتنوعة لفيتامين “د”، مما يعني استفادة الجسم حتى من المصادر التي تحتوي كميات متواضعة أو ضئيلة من فيتامين “د”. يضاف إلى ذلك أن الدهون المتأتية من زيت الزيتون تسهل عملية توليد فيتامين “د” من الأشعة فوق البنفسجية الموجودة في ضوء الشمس.
ولعل البعد الأهم لحضور المجتمع يتمثل في التقدم والحداثة، إذ وفر التقدم العلمي فيتامين “د” بأشكال طبية متنوعة كالمكملات الغذائية. وبإيجاز مملوء بالخلل، تبنت نظم الحداثة مسألة تعزيز الأغذية الأساسية، خصوصاً الحليب ومشتقاته والألبان والأجبان وأغذية الأطفال وغيرها بفيتامين “د”. ويضاف إلى ذلك أن النظم الصحية تنهض بالمسؤولية الرئيسة في التعرف إلى الأشكال المرضية لنقص فيتامين “د”، كالكساح لدى الأطفال، وهشاشة العظام لدى النساء اللاتي يتكرر الحمل والإنجاب لديهن وكبار السن وغيرهم. ولذلك انتشر إعطاء فيتامين “د” كمكمل غذائي في النظم الصحية والطبية الحديثة، بما في ذلك كبسولات زيت السمك، وتعزيز الأغذية والسلع الغذائية بذلك الفيتامين. وكذلك تقع على النظم الصحية مسؤولية إجراءات الوقاية وتقديم الرعاية، إضافة إلى نشر التوعية بتلك المشكلة التي تفترض تفاعلاً مع التعليم والإعلام العام وغيرها.
الجلد بوصفه المصنع الأكبر
من الناحية الطبية المحضة، يؤدي فيتامين “د” دوراً حاسماً في عدد من وظائف الجسم الأساسية. ويشتهر عنه الدور الذي يؤديه في تقوية وإدخال المعادن إلى صلب الأنسجة العظمية، خصوصاً الكالسيوم مما يفسر أن المادتين يجري الحديث عنهما بترابط كبير، بل كأنهما شيء واحد. ولعل الأقل شهرة وتداولاً عن دور فيتامين “د” يتمثل في أدواره المتعددة والأساسية في صحة نسيج العضلات وانتظام عمل نظام المناعة، والأهم منها هو دخوله في صلب عمل الخلايا المكونة للجهاز العصبي برمته، من الدماغ إلى الأعصاب الطرفية.
ولعل تلك المعطيات تسهل فهم الأعراض المتصلة بنقص فيتامين “د”، على غرار التعب وسهولة الوقوع في الإرهاق وتكرار الوقوع لدى أقل تعثر [أثر مزدوج من ضعف العضلات واضطراب عمل الأعصاب التي تتحكم فيها]، والاضطراب المزاجي والعصبي، وسهولة الإصابة بالأمراض المختلفة بأثر من سوء عمل جهاز المناعة، والتعرض لمعاناة الأمراض المتصلة بخلل جهاز المناعة الذاتي على غرار الربو والالتهابات التحسسية في الجهاز التنفسي وسواها. ويضاف إلى ذلك هشاشة الجلد ونقص مناعته، مما يؤخر عملية شفاء الجروح والتئامها، وارتفاع معدل الإصابة بأمراض جلدية مزمنة كالصدفية وكذلك الحال بالنسبة إلى الأورام الخبيثة، إضافة إلى تسريع شيخوخة الجلد. وفي المسار نفسه يبرز تأثير نقص فيتامين “د” على قوة الشعر وسرعة تساقطه وتفاقم بثور الوجه وحب الشباب. ويتصل نقص فيتامين “د” بمرض “البهاق” Vitiligo الذي يؤدي إلى انتشار لون أبيض شاحب على مساحات واسعة من الجلد، وكذلك الحال بالنسبة إلى الالتهابات التحسسية في الجلد، بما فيها الأكزيما.
وكخلاصة، ثمة حاجة إلى التوسع في النقاش عن الأمراض المتصلة بنقص فيتامين “د” وعدم كفايته، خصوصاً الكساح وهشاشة العظام، لجهة رصدها والوقاية منها ورفع الوعي في شأنها.
ومن دون الرغبة في الدخول إلى نقاشات عسيرة، يتوجب الإشارة إلى أن النظم الغذائية النباتية الصرفة، بمعنى التي تقصر الأكل على النباتات والخضراوات والثمار وحدها، تعاني مشكلة عدم احتوائها على ما يكفي من فيتامين “د”.