الصواريخ “المقدسة” تورّط لبنان بحرب تدميرية… هذا ما يفعله “حزب الله”!
بات معلوماً أن الصواريخ التي أطلقتها فصائل فلسطينية من الجنوب اللبناني، حظيت بتسهيل من “حزب الله”، أو بعلمه، وان كان نأى بنفسه عن إعلان موقف مباشر داعم لهذه العمليات التي تورّط لبنان مجدداً في حرب إقليمية وتهدد وضعه الداخلي، لا بل تتعارض أهدافها مع المصلحة الوطنية اللبنانية. رعاية الحزب غير المباشرة والمغطاة إقليمياُ تحت عنوان “وحدة الجبهات” في مواجهة إسرائيل لا تعني أنه بات للحركات الفلسطينية ومنها تحديداً “حماس” و”الجهاد الإسلامي” قواعد ثابتة على أرض الجنوب، كما كان الوضع قائماً قبل العام 1975، إذ أن الامور اليوم مختلفة انطلاقاً من “مايسترو” واحد ينظمها هو “حزب الله” المسيطر والقادرعلى ضبط تلك الساحة أو إشعالها، وإن كان التصعيد الإسرائيلي وصل إلى ذروته في فلسطين على وقع الاعتداءات في المسجد الأقصى، والغارات المتواصلة على سوريا. لذا لا يمكن اعتبار ما حدث هو مجرد سقطة لـ”الحزب” بل بندرج في سياسته في إطار المواجهة ومحاولة توحيد الجبهات لحسابات إقليمية، وإن كانت لا تحظى بتأييد لبناني أو تغطية وطنية.
التصعيد على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، له انعكاسات سلبية خطيرة على لبنان ويفاقم الفوضى في البلد. ذلك أن الانفجار جنوباً لحسابات إقليمية وإن جاءت رداً على الاعتداءات الإسرائيلية ستكون له تداعيات على وضع لبنان الذي يشهد تفلتأ على كل المستويات. وما حدث في الجنوب من اطلاق صواريخ باتجاه فلسطين قد يتكرر بالفعل طالما أن الساحة اللبنانية مشرّعة ومكشوفة تغيب فيها مؤسسات الدولة لمصلحة قوى الأمر الواقع، مع الفراغ والتعطيل الذي يطال كل الاستحقاقات خصوصاً انتخاب رئيس للجمهورية. وبما أن الذين أطلقوا الصواريخ وباتوا معروفين، من منطقة تندرج ضمن مهمات قوات اليونيفل الدولية وتحت سيطرة “حزب الله” لم يعلنوا عن هويتهم، فإنهم قادرون على تكرار هذه العملية بعلم الطرف المسيطر أو بغض الطرف منه، وادخال لبنان في آتون حرب تشعلها حسابات خاطئة أو رسائل مجهولة لا وظيفة فعلية لها ولا تساهم في دعم الفلسطينيين، إذا كان المقصود منها الرد على ارتكابات الاحتلال الإسرائيلي في المسجد الأقصى.
الواقع أنه لا يمكن فصل عملية اطلاق الصواريخ والحديث عن وحدة ساحات المقاومة، عن التطورات التي تحدث إقليمياً، ومنها خصوصاً في الملف السوري الذي كان ساحة لمواجهات إيرانية- أميركية خلال الأيام الماضية، واستطراداً العقوبات الأميركية الجديدة المرتبطة بالحدود والتهريب. ولذا تسعى إيران في المواجهة إلى توحيد ساحات لبنان وسوريا وفلسطين وتنظيم جبهاتها، من خلال منح “حزب الله” الدور المركزي انطلاقاً من قوته الإقليمية خصوصاً بين سوريا ولبنان وعلاقته بالحركات الفلسطينية. لكن ذلك لا يعني أن التصعيد من الجنوب اللبناني يهدف إلى اشعال الجبهات، إنما هو لتثبيت معادلة جديدة من قواعد الاشتباك، وللقول أن محور المقاومة قادر على تحريك جبهات متعددة في وقت واحد، وأن كانت بحسابات تضبطها المرجعية الإقليمية وفق مصالحها في المواجهة.
ولذا جاء اطلاق الصواريخ من الجنوب مع وجود رئيس المكتب السياسي في حركة حماس اسماعيل هنية في لبنان، ليحمل رسائل إقليمية، لكنه يطرح اسئلة عن الجهة التي قررت التصعيد أو إذا كانوا افراداً بتغطية من جهة معينة، للقول بضرورة توحيد الساحات. والمعلوم أن ساحة الجنوب اللبناني لها خاصية مختلفة، إذ أن المقرر فيها هو “حزب الله” وهي ساحة لها امتدادات إقليمية لم يحركها الحزب أصلاً عند العدوان الإسرئيلي على غزة قبل سنتين. لذا إشعالها اليوم هو جزء من معادلة يتصدرها الراعي الإقليمي، وهي جبهة بقيت ساكنة حتى مع استمرار ضربات الطائرات الإسرائيلية لمواقع إيرانية في سوريا وسقوط عدد من المستشارين الإيرانيين إضافة إلى عناصر من “حزب الله”.
الطريقة التي توزعت فيها الصواريخ على أرض الجنوب، تثبت أن العملية تأتي في سياق التنسيق بين الفصائل الفلسطينية و”حزب الله” ولها أهداف عديدة لكنها تحت سقف معين، بدءاً من الرد على الاعتداءات التي تستهدف المسجد الأقصى، وأيضاً على ضربات الطائرات الإسرائيلية في سوريا ورداً على الاغتيالات التي طالت بعض قيادات محور المقاومة في سوريا. والاهم أن كمية الصواريخ واستهدافاتها تعني أن هناك تنسيقاً وغرفة مشتركة لتلك القوى، بصرف النظر عن الجهة التي تولت الإطلاق. لكن يمكن لصواريخ من هذا النوع أن تجر لبنان إلى حرب تدميرية، فحكومة بنيامين نتنياهو رغم ارباكها تنتظر حجة للخروج من مأزقها الداخلي وتصويب الأنظار نحو مسار آخر، وإن كانت غير قادرة على اشعال حرب كبرى قبل توجيه ضربات إلى إيران تنهي مشروعها النووي. ولذا لا يمكن اعتبار الصواريخ مجهولة بالمطلق إذا كان أصحابها يوجهون رسالة تجعل المنطقة في وضع خطير وقابل للاشتعال في أي لحظة.
الأخطر أن عملية اطلاق الصواريخ في هذا التوقيت الإقليمي، يعني وفق المعادلة الجديدة لقواعد الاشتباك التي يرسخها “حزب الله” أنه يمكن للساحة اللبنانية ان تصبح جزءاً من الرد على ضربات إسرائيلية على سوريا أو غيرها، وهو ما يعني إبقاء الحدود مستنفرة في مناطق التماس مع إسرائيل وقابلة للاشتعال على الرغم من أن إسرائيل و”حزب الله” لا يريدان حرباً كبرى في هذه المرحلة، وهو السبب الذي أدى إلى وقف العمليات والتصعيد، فالحزب يعرف أن إسرائيل عاجزة اليوم عن خوض حرب شاملة في المنطقة، بسبب أزمتها الداخلية أولاً ثم بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية التي لا تريد فتح جبهات أخرى مع استمرار الحرب الأوكرانية، خصوصاً أيضاً بعد التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وبدء إسرائيل باستخراج الغاز وتصديره، ولذلك هو يسعى إلى تحقيق مكاسب في تثبيت قواعد اشتباك معدلة، أي الرد حيث أمكن على الضربات الإسرائيلية من دون أن يكون الجهة المباشرة في القتال. ولذلك عندما قصفت إسرائيل مناطق حدودية لبنانية أبلغت مسبقاً قوات اليونيفيل بتنفيذ ضرباتها رداً على الصواريخ وتبين أنه رد محدود. والأهم أن إسرائيل تعيش حالة إرباك داخلي، وهي لا تستطيع التصعيد إقليمياً في شكل واسع بعد الاتفاق الإيراني- السعودي، وإن كانت تسعى إلى تخريبه بطرق مختلفة.
وفي وقت يتواصل الانهيار في لبنان، في ظل الصراع على الرئاسة، تأتي الصواريخ المجهولة وإن كانت خلفيتها معلومة لتؤكد أن البلد ساحة مشرعة للرسائل والاستخدامات بعلم القوى المتنفذة والمتحكمة بأموره، حيث الحدود مفتوحة للتهريب والتوظيف، وهي أحد الملفات التي يقف لبنان بمؤسساته وأجهزته عاجزاً عن ضبطها، وأيضاً أحد الملفات الرئيسية المطلوبة من النظام السوري كشرط للانفتاح العربي عليه، فيما لبنان مطالب بالالتزام بالقرارات الدولية، وتولي قواه المسلحة الشرعية حماية الحدود، فإذا اشتعلت الجبهة الجنوبية لن يكون هناك مكان للدولة أمام السلاح الإقليمي في المواجهة.
إزاء الوضع المستجد سيقدم “حزب الله” نفسه مجدداً أنه القادر على ضبط الوضع جنوباً، وأن اطلاق الصواريخ حدث يمكن ضبطه، ومنه يقدم قوته أنه حام للبنان ومنقذ كما جاهر بأنه حافظ على ثروة لبنان النفطية في اتفاق الترسيم البحري الذي اعتبره تاريخياً، فلا حاجة عندئذ للبحث في الاستراتيجية الدفاعية إلا وفق مفهومه لها. ومن الملف الجنوبي الذي يخضع لسيطرته يرفع سقفه في الملف الرئاسي متصلباً في موقفه عبر التمسك بمرشحه وفي مواجهة العقوبات الأميركية، فلا تتحرك المياه الراكدة في الشأن الرئاسي ما لم يتقدم البحث ويتصدره مرشح الممانعة، ولا بأس إذا كانت زيارة سليمان فرنجية إلى باريس ناجحة أو لم تحسم اسمه، فترشح هذا الأخير ثابت في المعادلة وزيارته فتحت الطريق أمام المزيد من التفاوض، طالما ان “حزب الله” هو الطرف الوحيد ومن ورائه إيران الاقدر على تقديم ضمانات لأي طرف بما فيها الدول من فرنسا إلى السعودية، تماماً كما أنه الطرف القادر على ضبط الحدود جنوباً أو تغيير المعادلة في أي وقت.
ابراهيم حيدر- النهار العربي