هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الإبداع البشري؟

“غوغل” سلبنا ذاكرتنا. هل يمكن أن تسلبنا التكنولوجيا إبداعنا أيضاً؟ ما الذي قد يصيب الإبداع العقلي في حال أصبح إنتاج نصوص السيناريو السينمائية وكلمات الأغاني ورسائل البريد الإلكتروني وبطاقات المعايدة، بسهولة سؤال برنامج “خرائط غوغل” عن الاتجاهات؟

بالنسبة إلينا نحن المولودين قبل عام 2000 كانت ذكرياتنا تعمل بشكل مختلف. كنا نحفظ أرقام الهواتف عن ظهر قلب. والوقائع، والتواريخ. وأفضل طريق يمكنك أن تسلكها من منطقة مانور هاوس إلى منطقة ماربل آرش. وجدول عرض مسلسل نيبرز (جيران-Neighbours)، ثم أتانا “غوغل” والهواتف الذكية، وفجأة أصبحت كل المعلومات التي تحتاج إليها موجودة في جيبك. لست أقول إننا تحولنا إلى أسماك ذهبية عملاقة راجلة من دون حراشف، لكن العلماء يتفقون على أن ذكرياتنا تغيرت. وإن افترضنا أننا انتقلنا بالزمن إلى عشرين سنة من اليوم، يرجح بأننا سننظر عندها إلى عام 2023 باعتباره نقطة تحول مشابهة في العقل البشري، لكن هذه المرة في موضوع الإبداع.

في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أطلق مركز أبحاث الذكاء الاصطناعي، “أوبن أي آي” (OpenAI)، برنامجاً للدردشة لم يتوقعه أحد في العالم اسمه “تشات جي بي تي” ChatGPT، يقوم على الذكاء الاصطناعي، ويمكنه أن ينفذ أي عمل كان من كتابة كلمات أغنية (ملتبسة) بأسلوب المغني نيك كايف، إلى النجاح في امتحان الماجستير لإدارة الأعمال، مروراً بالتأمل الواعظ حول طبيعة الوعي، ما عليكم سوى كتابة سؤال أو طلب، فتأتيكم الإجابة فوراً، قبل أن تتمكنوا حتى من وضع الإبريق على النار. منذ ذلك الوقت، أصبح البرنامج أسرع المنصات الرقمية نمواً في التاريخ، وجاء تحديث سمي 4-GPT في مارس (آذار) 2023 ليزيد من قدراته المخيفة.

جربت “تشات جي بي تي” بعدة طرق. طلبت من البرنامج أن يكتب لي قصيدة فكاهية قصيرة عن البيتزا، وأن يحرر رسالة إلى مدرسة طفلي، وقصة قصيرة بأسلوب مجلة “نيويوركر” الأدبي باستخدام الطائر كاستعارة عن الموت. تبدأ القصة كالتالي: “عند الغسق في يوم شتوي، تمشى الرجل العجوز على ضفاف النهر، مستغرقاً في أفكاره. وقف يشاهد تلاشي آخر آثار الضوء من السماء، فيما أحنت الأشجار رؤوسها كأنه خشوع أمام الليل القادم”. إن النتائج التي يعطيها “تشات جي بي تي” فورية، وليست سيئة، كما السحر الأسود. وما زالت هذه التكنولوجيا في بدايتها. باعتباري شخصاً مبدعاً، أنا مفتونة ومرعوبة في آنٍ معاً.

أنا لست وحدي في هذا. فردود الفعل السلبية على الذكاء الاصطناعي المنتج – وهي عبارة فضفاضة تشمل كل أنظمة التعلم العميق التي يجري تدريبها على كم هائل من النصوص والصور إلى أن تتمكن من إنتاج محتواها الخاص رداً على المدخلات (الأسئلة) – شديدة، بدءاً ممن يحترفون مجال الإبداع ويخشون القضاء على باب رزقهم، ووصولاً إلى عمالقة قطاع التكنولوجيا أنفسهم. وبالفعل، انضم إيلون ماسك – الذي مهما قلتم عنه، لا يمكن اعتباره شخصاً رجعياً أبداً – إلى غيره من القادة في مجال الذكاء الاصطناعي في توجيه رسالة مفتوحة مثيرة للجدل تدعو إلى فرض مهلة ستة أشهر ضرورية على “تجارب الذكاء الاصطناعي الضخمة” من أجل الإنسانية. وتمادت إيطاليا أكثر بعد، فحظرت “تشات جي بي تي” على خلفية اعتبارات الخصوصية. سواء طبقت هذه المهلة أم لم تطبق، فقد رمى الذكاء الاصطناعي أساساً قنبلة مولوتوف داخل كومة قش جاف في قلب قطاعاتنا الإبداعية، لكن ماذا عن أثره المحتمل على عقولنا؟ لكي أتمكن من فهم تداعياته على الإبداع البشري، تكلمت مع البروفيسورة في علم الأعصاب آنا أبراهام، مؤلفة كتاب “الإبداع من منظور علم الأعصاب”. ولا شك في أن آنا، الأستاذة في جامعة جورجيا في الولايات المتحدة ومنظمة “مهرجان تورانس” للأفكار Torrance Festival لعام 2023، شغوفة بأهمية الإبداع البشري. ولا يسعني أن أصف محادثتنا حول الذكاء الاصطناعي بالمطمئنة.

وتشرح لي عبر اتصال بالفيديو “أعرّف الإبداع بأنه التوصل إلى أفكار مبتكرة تجلب الرضا، لكن جانب الرضا سيختفي كلياً”.

وهذا تلخيص جيد لمخاوفي الشخصية. إن الإبداع صعب: فهو يعني تفادي الطرق السهلة. وبحسب التعبير الخالد للكاتبة دوروثي باركر “أكره أن أكتب، لكنني أحب أنني كتبت”. لا شيء سوى وجود موعد نهائي ودلو من القهوة بلا بدائل أخرى يمكن أن يجعلني أكتب. هل سيختار أي أحد أن يشعر بهذا الألم ويستمتع بالمكافأة في النهاية إن كانت كتابة سيناريو سينمائي بسهولة طلب الحصول على الاتجاهات من خرائط “غوغل”؟ والأهم أن الإبداع ليس ملكة منظمة وخفية يمكن أن تضعها إلى جانب شكل الشنب القديم أو ملابس اليوغا باعتبارها إشارة إلى شكل من أشكال الفنانين، كما شرحت أبراهام، إنها جزء أساسي من التفكير النقدي والروابط العاطفية التي تجعلنا بشراً. فلنأخذ مثال تعزية المكلومين “عليك سلوك السبيل الصعب والتفكير فيما تريد أن تكتب أو تقول، لكن يمكننا الاستعانة بمصادر أخرى”.

لكن هذه السهولة، وهذا السعي الحثيث من قطاع التكنولوجيا لإزالة كل أسباب الاحتكاك من حياتنا وضعنا على مسار مقلق. وتقول أبراهام “لو سلكنا الطريق السهل وأوكلنا مهمة التواصل إلى جهة أخرى، قد نضيع فعلياً القدرة على إدراك صوتنا الخاص، وهو أمر أساسي للإبداع. أن يعرف المرء صوته، ويفكر بنفسه، ويستوعب المعلومات بنفسه بدلاً من أن يفعل ذلك طرف آخر بالنيابة عنه… يقلقني أثر الذكاء الاصطناعي على التعلم بشكل عام، والاستيعاب العام، وكل ذلك سيؤثر في الإبداع”.

ولا تقتصر تبعات هذا الموضوع على الشخص المسؤول عن عملية الابتكار – سواء لكتابة بطاقة تعازٍ أم رسالة بريد إلكتروني أو قصيدة أو حملة سياسية – بل على المتلقي كذلك، كما شرحت آنا، فإن “الفكرة الجيدة لا تأتي سوى عند وجود عدد كاف من الأشخاص القادرين على فهمها والاستماع إليها والإحساس بها”. يستطيع عصر الذكاء الاصطناعي أن يضعف قدرتنا على الابتكار والتأمل والتواصل.

كما هو الحال بالنسبة إلى كل مراحل الثورات التكنولوجية، من المهم النظر إلى السياق التاريخي. مر الإبداع بمراحل صعبة قبلاً: ظهور الكتابة في المقام الأول قضى على تقليد شفوي ثري كان يسرد الشعر والقصص المحكية. أما آلات الطباعة، فغيرت هي أيضاً وجه الإبداع، كما فعل الراديو والتلفزيون والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن إبداعنا لم يخف، وأصبحنا نستخدم أدوات أكثر ونستمد التأثير من مصادر أخرى ونشارك عملنا على نطاق أوسع من ذي قبل.

كما يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه بالنسبة إلى الكتاب الحقيقيين، لا يشكل “تشات جي بي تي” سوى وسيلة لهو أو إهانة بدلاً من أن يكون منافساً لهم. اعتبر المغني وكاتب الأغاني نيك كايف المذهل بحسه الحزين كلمات الأغنية التي ألفها برنامج الروبوت مقلداً أسلوبه “هراء”. أما قصيدة السوناتا لشكسبير التي طلبت الإذاعة الرابعة من “تشات جي بي تي” أن يكتبها لمناسبة عيد الحب، فبدت جوفاء ومبالغاً بها، على رغم قراءة تشارلز دانس الجهورية. ولن تمر القصة القصيرة حول العصفور أبداً في صندوق بريد موظفي التحرير في مجلة “نيويوركر”. الخوارزميات بلا روح، ولا تعاني، وتعجز عن الخلق بالطريقة الأصيلة والفجة التي تغذي الفن الحقيقي.

ومع ذلك، فإن هذه الأداة لا تزال في بدايتها. يمكنك مواصلة تغذيتها بأسئلة ومدخلات – وكن أكثر إيحاءً ووضوحاً، ولا تستخدم الأنماط المبتذلة. وهي تتعلم باستمرار، وتتحسن بطرق لا يمكن لمخترعيها حتى أن يتوقعوها. لا يسعني إلا أن أشعر بأن هذه الثورة التكنولوجية على قدر مختلف من الضخامة، وأننا أطلقنا العنان لأمر لم نفهم بعد أدنى تبعاته.

إن التواصل مع “تشات جي بي تي”، كما تقول أبراهام، شبيه بأن “تطلب من جني أن يحقق لك أمنية”، هذا أمر يذهلني، ويؤرقني على حد سواء. وما يعرفه معظم الأطفال، وربما عدد لا يكفي من مطوري الذكاء الاصطناعي، هو المشكلة التي تواجهك مع الجني. عندما يخرج من قمقمه فهو لا يعود إليه أبداً.

اندبندنت

مقالات ذات صلة