“الهرشة السابعة”… دراما الدانتيل والأسنان البيضاء!

يشتغل مسلسل “الهرشة السابعة” على مصطلح رائج منذ فيلم مارلين مونرو الشهير “هرشة السنة السابعة”، والذي تبقى منه صورتها الأيقونية عندما ارتفع وتطاير فستانها. استعارة العنوان الأجنبي، يأخذنا إلى دراما مترجمة، مستعارة بطريقة ما، فلو غيرنا أسماء الشخصيات يصلح أن يكون المسلسل إنكليزيًا أو إسبانيًا.

ليس لأنّه يحفر في مشترك إنساني حول علاقات الحب والزواج، بل لأنه عولج دون حفر كافٍ في محليته، فالشوارع لا تكاد تظهر، وأبطال العمل أنفسهم لا يبدو لهم مرجعية دينية حتى في لحظات الضعف والانكسار، وعندما تظهر على الشاشة صورة لرئيس الحكومة في مشهد لا يكون لها أي معنى للممثل الذي يتفرج عليها، ولو كانت لقطة للدلاي لاما، فلن يتغير شيء.

في نهاية الحلقة الأولى يجلس الأصدقاء على عشاء في شاليه ويسألهم “آدم” (محمد شاهين): “حد سمع يا جماعة عن القرار اللي اتاخد الصبح دا؟” تكون الإجابة: “الفيسبوك مقلوب.. بس خلي بالك ماحدش لسه فاهم حاجة”! ما القرار؟ لا أحد يعلم.

فثمة “فلترة” كي لا ينغرس الفعل الدرامي في بيئته وجغرافيته، لتبقى الحوارات عائمة ومناسبة لأي مجتمع. هنا يفقد الفن شيئًا من خصوصيته، وذاتية تجربته. يمكن لأصدقاء وأزواج فرنسيين أن يجلسوا جلسة السمر كهذه، ويمكن لأزواج لبنانيين أن يفعلوا الشيء نفسه، ولكن ثمة حمولة خاصة بكل جلسة تميّزها عن غيرها.

هذا التضييق على البيئة، أو تحييدها، يظهر في تأطير السيارات حول عجلة القيادة والكرسي المجاور إذا كان يشغله آخر، بينما نادرًا ما يظهر الشارع وضجيجه، حتى محل “إبراهيم” (محمد محمود) والد نادين، تضيق الكاميرا لتؤطر فقط الدباديب الموجودة في داخله.

طموح لأعلى

تحييد البيئة خلق فضاءً يقسم الحلقات بصريًا إلى مستويين: مشاهد أساسية تدور غالبًا في غرف النوم وداخل الشقق الفخمة، ومشاهد ثانوية تدور في الخارج، في النادي وملعب التنس والمطاعم والهايبر والجيم. وتعبر عن مستوى لا يصل إليه 70% من المصريين.

إن المجتمع منذ أيام الفراعنة ينقسم هرميًا إلى ثلاث طبقات: طبقة الحاكم وأسرته وهي قليلة العدد واسعة النفوذ، ثم طبقة الحاشية المحيطة به من كبار الموظفين ورجال الدين وقادة الجيش، ثم طبقة عمال وفلاحين وفنيين.

ربما لا تعرف مصر طبقة أرستقراطية ـ بالمعنى الدقيق ـ بل طبقة عليا متغيرة ومتقلبة، من شخصيات تحقق ثراءً فاحشًا من تجار ومقاولين، أو موظفين كبار قريبين من السلطة. ثم طبقة متوسطة تجمع الأقل ثراءً ونفوذًا من المتعلمين، وأخيرًا طبقة دنيا فقيرة هي الأكبر عددًا.

بالنظر إلى فضاءات المسلسل، وشخصياته، لسنا أمام طبقة عليا ذات ثراء فاحش، ومتحالفة مع السلطة، ولكن أيضًا ليست “طبقة متوسطة” تعيش خوف السقوط إلى أسفل. فالحبكة هنا تشتغل على شريحة بين طبقية، شخصيات تنتمي بقيمها إلى طبقة وسطى محافظة أخلاقيًا إلى حد ما، لكنها تحاول العيش بمعايير الطبقة العليا النافذة.

فالشخصيات ليست ذات علاقة مباشرة مع السلطة، لكنّ حياتها تحاكي أعلى طبقة من ناحية فخامة الشقق، والحرص على مناسبات الميلاد، وإقامة علاقات مع أجنبيات، والرطن بأكثر من لغة، وتعليم الأولاد في مدارس أجنبية.

إنها شريحة “فوق متوسطة”، في لحظة كفاح يائس كي لا تعاني التهديدات التي تواجهها الطبقة الوسطى، لكنّها أيضًا غير مندمجة في السلطة، وتعتمد في ثرائها على مواهبها وتعليمها العالي وشبكة علاقاتها.

فالمسلسل لا يمثل معظم المصريين، وهذا ليس عيبًا، بل خيار درامي. فهو يعبر عن شريحة محدودة، ويتوجه إليها كجمهور ضمني. لذلك، الشخصيات في أزماتها ومآزقها العاطفية والنفسية، لا تلجأ إلى الله ولا تذهب إلى المساجد والكنائس ـ ولو مؤقتًا ـ على عادة الطبقة الوسطى.

كما أنها لا تستوقفها أسعار اللحوم والدواجن والبنزين وفواتير الكهرباء، حتى وهي تتحدث عن عدم العمل، وقلة الدخل، ولا يبدو أنها تتأثر بذلك فعليًا، ولا نجد إجراءات تقشفية صارمة، بل تستمر حياة الرفاهية.

في أكثر من مشهد تظهر نادين تعتني بغسل أسنانها بالفرشاة. وهذا شرط صحي ضروري، لكنه قد يُعد رفاهية لشرائح كثيرة لا تعرف ما هو معجون الأسنان، ولا تملك رفاهية شرائه.

إنها شريحة تحافظ على أسنان بيضاء لامعة، وأظفار طويلة مطلية بعناية، ونظارات شمسية، وتؤسس مكانتها على ما تمتع به من صحة وجمال وأمان مالي. ثم تحكي لنا “همومها”.

خطوط دراميّة

إن الهموم عند قاعدة الهرم الطبقي تكون فادحة ومأساوية، وتتعلق بالقدرة على البقاء، والعيش يومًا بيوم، بينما في الأعلى تبدو “الهموم” كأنها “بطر على النعمة”.

لذلك لم تتولد الدراما التي أعدتها ورشة سيناريو برئاسة مريم نعوم، من حجز أحد في المستشفى والعجز عن سداد ثمن جراحة أو توفير أكياس دم، بل كانت القضايا ناعمة وخافتة، فالزوجة والأم “هناء” (عايدة رياض) تطلب الطلاق بعد ثلاثين سنة زواج لشعورها بـ”عدم التقدير”، والأم “فيفي” (حنان سليمان) تريد الزواج بعد سنين من وفاة زوجها لأنها “ملت الوحدة”.

على مستوى الجيل الشاب تضفرت الحبكة من خطين متوازيين ومتقاطعين: خط “نادين وآدم” (أميمة خليل ومحمد شاهين) وهو الأساسي، وخط “سلمى وشريف” (أسماء جلال وعلي قاسم) وهو البديل.

لدى كل ثنائي تصوّر مختلف عن الحياة الزوجية، فهذا متحمّس للإنجاب، وذاك متردد، و”آدم” يميل للتقسيم التقليدي للوظائف، حيث يتولى العمل والإنفاق ويترك البيت لإدارة “نادين”، بينما “شريف” بارع في الطبخ والقيام بشؤون البيت، ولا يميل للالتزام، وزوجته مدربة باليه مائي.

اختلاف الثنائي لا يعني انسجام كل طرفين معًا، بل يساهم فقط في تلوين الصراعات، حتى لا تكون مكررة. فبين كلا الزوجين دراما معتادة بمنطق عنوان الكتاب الشهير “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”، فدومًا هناك سوء تفاهم ما. في كل مشهد وكل موقف، قبل النوم وبعد الاستيقاظ، في المطعم وعند السفر، وعلى سفرة الطعام، لا بد أن يتولد سجال ونقاش حادّ ومكتوم. ولو بالحركة والنظرات والدموع.

قد تكون سجالات ثانوية وعابرة، يتمّ تجاوزها سريعًا، وقد تشكل لحظات مفصلية وموترة مثل لحظة فقد “نادين” لجنينها، ولحظة اكتشاف سلمى أن شريف لديه بنت مراهقة من سيدة أجنبية.

ومثلما توترت الأجواء عقب خسارة آدم لوظيفته كمهندس ناجح، توترت ثانيةً بسبب عمل “نادين” في مجال “التعليق الصوتي” واضطرارها للبقاء خارج البيت إلى وقت متأخر، أي أن فقد العمل والحصول عليه، سيان، في تفجير الصراع.

في مفتتح الحلقة الأولى يدور حوار بين آدم ونادين عن خامة “الدانتيل”، وحساسيته منها. الطريف أن هذا النسيج عرف في إيطاليا قبل نحو خمسة قرون، وكان لبسًا للرجال قبل أن يصبح من زينة النساء.

إنها خامة تصنع غالبًا من الحرير وتتسم بنعومة فائقة، تعتمد على نسيج لا نهائي من الخروم المتشابهة أو غير المتشابهة.

وتقريبًا جمع كُتّاب ورشة السيناريو كل “الكلام الممكن والمحتمل” في أي علاقة زوجية موجودة على ظهر الكوكب، وصنعوا منها حوارات معبرة عن الخروم والثقوب في العلاقات، متشابهة وغير متشابهة، فأحيانًا تستطيع أن تلوم طرفًا وتنصف الآخر، وأحيانًا تلتمس العذر للطرفين.

كُتبت الحوارات بنعومة الدانتيل، ونسجت لها مشاهد بمنطق الثقوب المنمنمة والعشوائية.

لكنها ـ من زاوية أخرى ـ خلقت هيمنة ذهنية للأفكار على الحوادث، والدراما فعل قبل أن تكون “حوارات”، فطوال الوقت ومهما كان المشهد بسيطًا ينقلب إلى سجال. ويستحيل أن يكون هناك زوجان يستمران في العراك الكلامي بهذه الضراوة على كل موقف مهما بدا تافهًا.

تحول العمل إلى جملة حوارية طويلة، أشبه بصراع الديوك باللسان لا المنقار، وكأنها جملة مستمرة بالإيقاع نفسه إلى ما لا نهاية، حتى لو سرّعنا المشاهد أو تجاوزنا مقاطع لن يتغير أي شيء، لأن كل شخصية من الأطراف الأربعة تبقى محتفظة بموقعها كما هو.

وهذا يخالف توقعات الرجال المتفرجين الذين يفضلون الأكشن والتحولات والمفاجآت، بينما النساء المتفرجات سيجدن وراء الحسّ الأنثوي في الكتابة تسجيلًا أمينًا لكل شكواهم من الزواج، وما لا يقدرون على النطق به غالبًا.

روزنامة

ضبط المخرج كريم الشناوي زمنية مسلسله بإحكام وفق روزنامة تبدأ من الزواج في أبريل 2016 بعد سنوات طويلة من الحب، وتستمر حتى لحظة عرض المسلسل، لتكتمل سبع سنوات.

وتعامل الشناوي مع أدواته بإحكام، من ناحية الحفاظ على توترات الحوارات، وتعميق المأزق النفسي لشخصياته وإبقائها على حافة التوتر، وسلاسة التكوين والمونتاج، ورهافة الموسيقى والأغاني المصاحبة، ودفء الإضاءة.

ثمة حرفية عالية في الرؤية الإخراجية بلا فذلكة ولا ادعاء، مؤمنًا بأنه يقدم دراما عصرية تشتغل على قوة الحوار والصراع النفسي داخل كل شخصية وليس على أي شيء آخر.

تُحترم سيطرة المخرج على أدواته وتوظيفها وفق طبيعة السيناريو وجمالياته التي تنطلق من أهمية التفاصيل، مهما بدت بسيطة، فعليها تتوقف سعادة أي شريكين، وبسببها تُدمر أي قصة حب مهما كانت عظيمة.

وكانت تلك التفاصيل مثل خروم الدانتيل، إذا حافظت على انسجامها تصبح مصدر سعادة، وإذا اتسعت أكثر مما يجب، قادت إلى التعاسة.

النهار العربي

مقالات ذات صلة