المفعول العكسي للعقوبات الأميركية.. وللمواصفات السعودية: التخلي عن لبنان؟
هل تقود العقوبات الأميركية التي فرضت مؤخراً على شخصيات لبنانية سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا؟ يبدو السؤال غريباً ويجاور بعض الهذيان.. لا سيما أن القراءة المبسطة والأولية لهذه العقوبات تشير إلى أنها رسالة واضحة لرفض المسار القائم لبنانياً أو فرنسياً على خطّ الانتخابات الرئاسية. ولكن لماذا هذا السؤال الآن؟ منبعه سؤال آخر لم يجد جواباً حتى اليوم، وهو يحتاج العودة إلى اتجاه الرئيس سعد الحريري نحو تبني ترشيح سليمان فرنجية في العام 2015. قبل ترشيح فرنجية، كان الحريري قد سار في مفاوضات طويلة مع التيار الوطني الحرّ في حينها، حول دعم ترشيح ميشال عون، ولكن المساعي جُمّدت. بعدها لجأ الحريري إلى تبني ترشيح فرنجية، ما دفع برئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلى تبني خيار عون، وصولاً إلى انتخابه. هنا لا بد من العودة إلى السؤال: هل من عمل على دفع الحريري إلى ترشيح فرنجية كان يهدف إلى إيصال رئيس تيار المردة لرئاسة الجمهورية؟ أم أنه كان على علم بتكتل المسيحيين ضده، وبالتالي فتح الطريق أمام رئاسة عون؟
دفع الأثمان
ما مناسبة هذا الكلام الآن؟ ولماذا تتزاحم كل هذه الأسئلة؟ الردّ التلقائي يتفرع إلى جوانب مختلفة، بدءاً من اعتبار هذه العقوبات تستهدف فرنجية وترشيحه، ما سيدفع حزب الله إلى التمسك به أكثر. وصولاً إلى أن الأميركيين أكثر الجهات براغماتية، ويسعون إلى تحقيق أهداف استراتيجية يريدونها بمعزل عن الجهة أو الشخص الذي يوفرها لهم. وهذا أمر يسهل على اللبنانيين تعداده أو مراقبته، منذ ما قبل ملف ترسيم الحدود إلى ما بعد اطلاق سراح موقوفي انفجار المرفأ. وبالتالي، فإن الضربة الأميركية من شأنها تحفيز الكثيرين للاتجاه نحو “دفع الأثمان”، سواء كانت سياسية أم في مجالات أخرى. وعليه فإن الطرف الأقدر على دفع الأثمان هو فريق الثامن من آذار بقيادة حزب الله لأنه الأقوى، والذي يمتلك الكثير من الأوراق يمكن التصرّف بها. فيما الآخرون في حالة تضعضع واختلاف.
قد يقول قائل، إن العقوبات ذات رسالة واضحة ومسار مستمر، يستهدف كل “البطانة” التي تتغذى عليها الطبقة السياسية، وبالتالي هي تحمل مؤشرات دولية واضحة إلى أن القوى الكبرى لم تعد تريد لتلك الطبقة أن تستمر في حكم لبنان على طريقتها، وأن الحاجة ضرورية لفرض التغيير. وهذا صحيح أيضاً، لكنه يحتاج إلى مسار طويل، ولا يتم بهذه الطريقة السريعة أو الخاطفة. لذلك، لا بد من الانتظار لسنوات، واستغلالها في الضغط على هذه الطبقة لتدفيعها المزيد من الأثمان. تماماً كما كان الحال الفرنسي منذ إطلاق المبادرة في العام 2020، والتي تحدث خلالها ماكرون عن تغيير النظام وإبرام عقد اجتماعي جديد، وإحداث التغيير المنشود الذي يطالب به اللبنانيون وقوى المجتمع المدني. إلا أنه فيما بعد، عمل ماكرون على إعادة التعاون مع الطبقة السياسية وأسهم في إعادة تعويمها. وهو أيضاً ينطبق على كل الكلام حول الذهاب إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، علماً أن لا أحد يريد ذلك حالياً، لا في الداخل ولا في الخارج. ولذلك، ثمة تسابق وتسارع على تحقيق المكتسبات في مجالات الاستثمار.. في كل ما هو على طريق الانهيار.
مقايضات إقليمية
سؤال آخر يفرض نفسه: هل انتخاب رئيس إصلاحي جديد بمواصفات دولية وإقليمية، مع تشكيل حكومة إنقاذية بصلاحيات واسعة، لإعداد خطة الإصلاح والإنقاذ، هو أمر ممكن ومتاح؟ وهل حان وقته؟ وهل كان لبنان وصل إلى حالة الانهيار التي وصل إليها، حتى يعود كما كان سابقاً؟ وبالتالي، فإن كل الضغوط والجهود تصب في خانة استنهاضه مجدداً؟ إنها أسئلة كبرى لا يمتلك أحد أجوبة عليها.
بالانتقال من كل هذه التعقيدات، لا بد من العودة إلى الواقعية السياسية، بالنظر إلى تطورات المنطقة وكل المسار المفتوح حديثاً بين السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى. إذ بعض المعلومات تشير إلى أن اتفاقاً حصل بين السعوديين والإيرانيين على إدراج الملف اللبناني على جدول البحث، خلال اللقاء بين وزيري خارجية البلدين. علماً أن هناك أولويات أخرى تتقدم على المبحث اللبناني، أهمها اليمن وتليها سوريا، التي تتزايد الضغوط في سبيل تسريع وتيرة تطور العلاقات معها. في السابق، كان اللبنانيون يطرحون معادلة “لبنان مقابل اليمن”. على قاعدة تحليلات داخلية تفيد بأن السعودية التي تركز اهتمامها على حل الأزمة اليمنية، لما يعينها ذلك بشكل مباشر، قد تقدم تنازلات في لبنان. حالياً، فإن ما يتبدى هو أمر مختلف، لا سيما أن الملف اليمني موضوع في مقابل الملف السوري. وكأن المعادلة تشير إلى أن تنجز السعودية ما تريده في اليمن، مقابل تسارع وتيرة الخطوات باتجاه دمشق، والتي تمارس طهران ضغوطاً عليها في سبيل وقف تهريب المخدرات وضبط الحدود، على أن يكون الثمن في المقابل سياسياً. وبحال صحّ هذا السيناريو، فيعني أن لبنان تحول إلى ملف ثانوي، فلا يعود إلى مقدمّة الملفات المطروحة للمقايضة.
الشعور باليتم
في هذه الحالة، تبقى الأسماء والأشخاص والمواصفات مسألة هامشية. فمثلاً، لن يضير حزب الله انتخاب أي رئيس للجمهورية سواء كان سليمان فرنجية أم غيره، طالما أنه يحتفظ بقوة وجوده وبتمثيله إلى جانب حركة أمل، بالإضافة إلى ثقل حضوره الشعبي والسياسي والعسكري. وبالتالي، لن يكون أحد قادراً على تجاوزه أو استهدافه. مثل هذه القراءة يحاول الحزب وحلفاؤه أيضاً إسقاطها على السعودية ومطالبها، على قاعدة انتخاب سليمان فرنجية مقابل ضمانات سياسية واستراتيجية تمنح للمملكة.
هنا قد يتولد شعور لبناني باليتم مجدداً، على قاعدة تحقيق السعودية ما تريده استراتيجياً في حماية أمنها القومي يمنياً، وسورياً وحتى لبنان، من خلال تركه سياسياً للآخرين مقابل إعلاء شعار “السعودية أولاً”.
وهكذا يكون الدور الذي كان يضطّلع به لبنان، ويعلي من شأن اهتمام الدول به، قد انتهى.
منير الربيع – المدن