السعودية – إيران: تبريد ملفات ولا صفقات كبرى
«اتفاق بكين» المُوقَّع بين السعودية وإيران في العاشر من شهر آذار/مارس الماضي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بضمانة صينية، حدَّد مدة لا تتجاوز الشهرين لإعادة فتح السفارتين، أي قبل العاشر من أيار/مايو المقبل، على أن يُعقد لقاءٌ بين وزيري الخارجية السعودي والإيراني خلال شهر رمضان لتفعيل وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بين البلدين، وسيعني حدوثه الانتقال من البُعد الأمني الذي تسيَّد لحظة إعلان الاتفاق إلى البعد الدبلوماسي، وتثبيتاً لنقلة نوعية جديدة في مسار العلاقات بين الدولتين.
لا تزال قوة الدفع التي نتجت عن لحظة ما بعد بكين تُحافظ على وتيرة قوية. ظاهر الاتفاق يحصره بعلاقات الدولتين سواء ببعدها الأمني أو السياسي أو الدبلوماسي، وستفتح على اتفاقيات أمنية موقّعة أصلاً في عامَي 2001 و2007 وعلى تعاون أمني إقليمي مرتبط بالخليج. أعطت الضمانة الصينية لشأن العلاقات الثنائية بعداً كبيراً، وسيفرض وهج الاتفاق نفسه على ملفات إقليمية مشتركة، لكن السؤال المحوري يكمن في مدى قدرة ملف العلاقات الثنائية، الذي سيُترجَم في مهلة الشهرين، على التأثير في تلك الملفات وكيفية مقاربتها.
ما يؤكده لصيقون بـ«محور إيران» أن «لا ملاحق سرية تتناول الملفات الإقليمية، لكن كل المسارات الإيجابية الجانبية التي كانت مجسّدة بـ«هدنة اليمن» و«ستاتيكو» العراق الحالي، والانفتاح على سوريا كانت موجودة في خلفية المشهد في بكين، وكان هناك أساس جرى البدء منه في تلك الساحات، ومن الطبيعي أنه سيتم البناء عليه، إنما من الصعب القول إن هذا الاتفاق يأتي ليفرض عليها واقعاً جديداً، بل على العكس، ستكون الدينامية المحلية، وخصوصية كل أزمة وظروفها، حاضرة بقوة وأساسية في عملية الاستفادة من العوامل المساعدة التي قد تنتج عن الاتفاق، وسيحدد ذلك ما إذا كان حلفاء السعودية سيكونون المستفيدين أو حلفاء إيران أو ستكون هناك توازنات في الفائدة للأطراف».
الأساس في المنطلق الإقليمي الذي يفتح على الملفات الأخرى هو اليمن الذي يشكل فيه الحوثي تهديداً استراتيجياً للسعودية. ما يُلمِّح إليه «منظرو المحور» أن العقدة الكبرى التي سيتم اكتشافها أن إيران لن تضغط على الحوثي، وربما غير قادرة، نظراً إلى أن هوامشه الذاتية كبيرة. وهذا ما يُفسِّر تصعيده الأخير الذي حمل رسائل متعددة الاتجاهات. في معلومات هؤلاء، أن «جماعة الحوثي» لا قدرة لها على تحمُّل المنطقة الرمادية بين الهدنة واللاهدنة لأن ذلك يمسُّ بتماسك بيئتها الداخلية، وتُخفِّف حالة «اللاسلم و«اللاحرب» من حافزية ناسها للعودة والانخراط مجدداً في المواجهة، ولذلك تريد رسالة «حسن نية» في العناوين الأربع التي تطالب بها وهي: رفع الحصار، ودفع الرواتب، وفتح الموانئ، وبدء وضع خطة لوقف إطلاق النار. والأهم أنها تريد أن تكون أحد اللاعبين المتحكّمين بالحل في الأزمة اليمنية.
وبالمنطق ذاته، يعتبر «منظرو المحور» أن إيران «لن تقبل بالضغط على «حزب الله» الذي لديه هوامشه، وستضطر لأن تركن لوجهة نظر الطرف اللبناني». رهان «حزب الله» على الاستفادة من وهج الاتفاق خلال شهري الترتيبات لتمرير مرشحهم الرئاسي سليمان فرنجية. فهو يُدرك جلياً أن ما ستؤول الأمور إليه، سواء في اليمن أو في سوريا، سيلفحُ لبنان.
لا يدور الحديث في أي من أزمات المنطقة عن صفقات كبرى، بل عن تبريد ملفات ومحاولات إدارة أزمات في المرحلة الأولى واستشراف إمكانية التحوُّل من التهدئة إلى الحلول، وهذا يتخطى رغبة وقدرة السعودية وإيران إلى أمريكا بوصفها اللاعب الأساسي والمؤثر في المنطقة، والذي سيكون موقفها من الاتفاق وتطبيقه على الساحات عنصراً حاسماً في مصيره. فواشنطن، بالحد الأدنى، قادرة على عرقلة الاتفاق، وعلى نسفه بالحد الأقصى، وإن كان ثمة مَن يعتقد أنها ما عادت تمتلك أدوات «الخربطة» الكليّة.
ورغم أن تقاطع اللحظة السعودية – الإيرانية أدى إلى تبنيهما الدور الصيني ليكون حاضنة للاتفاق، ورغم ما يمكن أن يحمله ذلك من دلالات جيوسياسية، فإن حدود التوقعات تبقى محدودة. فالمصالح الأمريكية ما زالت كبيرة وضخمة في المنطقة، وإنْ كانت سياستها قائمة على الانكفاء الناعم، كما انه لا توجد قدرة وأهلية وحضور صيني في المدى المنظور لتحوّلها إلى اللاعب الرئيسي ولا سيما الأمني.
إيرانياً، يعتبر «منظرو المحور» أن أحداً في الداخل لا يتجرّأ على العرقلة، حيت تكون الخيارات متعلقة بالأمن القومي، لا بل حين تكون نقطة الحسم آتية من المرشد الخامنئي الذي هو صاحب القرار النهائي ومُرسل أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي في الجمهورية الإسلامية علي شامخاني إلى بكين.
عناصر الحلول الكبرى في الإقليم غير ظاهرة في الأفق. التبريد مصلحة أمريكية راهناً إلى أن تتبلور مآلات الحرب الروسية على أوكرانيا، ومسارات «الكباش» مع الصين، ومصير الاتفاق النووي مع إيران. لا تبدو حظوظ العودة إلى الاتفاق النووي معدومة بالكامل. جرى تبادل رسائل بين الطرفين، لكن كل منهما غير مستعجل. أوساط إيران تتحدث عن اقتراح أمريكي بمحادثات مباشرة من دون الشركاء الآخرين، وأنها مرتاحة على وضعَيها الإقليمي والدولي، وقدرتها على الالتفاف على العقوبات، وتحظى بهوامش مرنة روسياً وصينياً وعربياً وتركياً، وهي متمهلة ولم تحسم أمرها بعد. أما أمريكياً، فالحديث عن انتظار ما إذا كان الحزب الديمقراطي سيُرشّح جو بايدن لولاية ثانية، حيث يُفترض أن يتقرر ذلك قبل الخريف، فيبان مسار التعامل حيال الملف النووي الإيراني والذي يشهد انقساماً ضمن إدارته. لكن ما يُريح طهران أنه لا تناغم للإدارة الأمريكية مع إسرائيل بالذهاب إلى سيناريوهات عسكرية. ورغم ما شهده شرق الفرات قبل أيام من اشتباك أمريكي – إيراني، فالاقتناع السائد أنه سيبقى تحت سقوف محسوبة في ظل عدم وجود إرادة لدى الطرفين في الذهاب بالأمور إلى تصعيد كبير.
رلى موفق- القدس العربي