“الزند”و”هداك المسلسل”: الزند” عن جهة الأسد… و”ابتسم أيها الجنرال” عن جهة المعارضة!

بعد مضي عشرة أيام على انطلاقة الدراما الرمضانية، يُفهم من التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي أن المنافسة استقرت بين مسلسل “الزند” عن جهة الأسد، ومسلسل “ابتسم أيها الجنرال” عن جهة المعارضة، المعروف أيضاً بـ”هداك المسلسل” تجنّباً لذكر اسمه لدى الموالين أو المقيمين في مناطق سيطرة الأسد. يُفهم أيضاً من تعليقات معارضين يتابعون مسلسل “الزند” إعجابهم بالسوية الفنية له، رغم اعتراضهم على ما يرونه مقولةً للعمل المبني على صورة البطل الشعبي، تحديداً الفلاح في زمن الإقطاع والعثمانيين، والمقدَّم بلهجة تحيل إلى كونه علَويّاً مع ما يفتحه هذا من اللعب على مظلومية علوية تاريخية. الذين من المقلب المضاد يتابعون “هداك المسلسل” لهم دافع يكاد يكون وحيداً، هو التلصص على ما يقوله المسلسل عن آل الأسد، ولو أنه لا يتطرق إلى العائلة مباشرةً وصراحةً.

لكن انفراد المسلسلين بالجدل بين موالين ومعارضين لا يعني احتكارهما اهتمام المشاهدين، فمن المؤكد أن شريحة واسعة منهم تتابع مسلسلات أخرى خارج هذا الانقسام الذي لم يعد يخلو من فلكلورية، وبالطبع لا يقتصر اهتمام الشريحة الأوسع على الدراما السورية، فللدراما المصرية تقليدياً حصة وازنة من اهتمام السوريين. نشير هنا إلى زمن مضى راح فيه بعض الجمهور السوري يتابع الإنتاج المصري من موقع المنحاز لنظيره السوري، وأيّامها اختُرعت مقولات، وتم تكريسها سوريّاً، عن تفوق الدراما السورية على نظيرتها المصرية، وكأنّ نجاح الأولى وتسيّدها المزعوم عربياً يرتقي بها إلى العُلا.

غير بعيد عن تلك المزاعم، راحت تُستحضر مقالات من هنا وهناك تثبت اهتمام الإعلام الغربي بالدراما السورية، ما يعكس بحسب المزاعم ذاتها اهتمام العالم بفورة المسلسلات السورية. على سبيل المثال، كانت إشارة صحيفة غربية إلى الدهشة إزاء حجم متابعة السوريين، وحتى بعض العرب، لمسلسلاتهم يُؤخذ دليلاً على النجاح، من دون رؤية الوجه الآخر الذي يحمل الدهشة أيضاً إزاء تلك الملايين المستعدة لتمضية وقتها في متابعة العديد من المسلسلات في شهر رمضان، وكأن لا عمل لها ولا مشاغل! لا بأس إذا ذكّرنا بأن المسلسل السوري الذي نال أكبر اهتمام في الإعلام العالمي هو “باب الحارة” الذي يهجوه عادةً “ذوّاقةُ” الدراما، ولا بأس بالتنويه بأن مجمل ما نالته الدراما السورية في الإعلام الغربي لا يُرى بالمجهر مقارنةً باهتمامه بظواهر عالمية أخرى.

راجت نكتة أيامَ صعود الدراما تلك، مفادها أن الممثل أيمن زيدان هو من طرد المحتل الفرنسي من سوريا. في مبررات شيوعها أن المذكور لعب أكثر من دور في مسلسلات تاريخية عن حقبة الاحتلال الفرنسي، أما الدلالة الأهم فهي في الانتباه إلى الدور المؤثر للدراما في صناعة الثقافة المشتركة بين السوريين، خاصة بين الأجيال الشابة حينئذ. والسيء في الأمر هو ذلك الاحتفاء بدور الدراما التلفزيونية، والتغطية على أنها صناعة قبل أن تكون فناً، والتباهي بالنجاح عربياً للتغطية على كون غالبيتها نتاج متوسطي الثقافة وما دون.

من المعلوم أن سلطة الأسد استثمرت في الدراما، على نحو مباشر وغير مباشر، وفي مطلق الأحوال كان من المستحيل إنتاج عمل خارج رقابتها. بل إن رواج صناعة الدراما يتطلب الحصول على رضا الرقابات التي تخضع لها المحطات التلفزيونية العربية الكبرى، وهي التي يعوَّل عليها لتسويق الأعمال أو لإنتاجها. لنا، بعد المرور على أجهزة الرقابة هذه جميعاً، أن نتخيَّل المنجز الدرامي السوري الذي له بصمة حاضرة حتى الآن على وعي ووجدان شريحة واسعة من السوريين.

شرْطُ المرور على تلك الرقابات يُفترض أنه تلقائياً يضع المعارضة خارج المنافسة الدرامية، ووجودها اليوم بـ”ابتسم أيها الجنرال” هو استثناء من القاعدة بفضل إنتاجه من جهة لا تهدف أصلاً إلى الربح، وهو استثناء ستزداد صعوبته بتطبيع العديد من الأنظمة العربية مع الأسد. على كل حال، ليس هناك ما هو مؤسف في خروج المعارضة من المنافسة الدرامية، ولم تقم الثورة في سوريا لمزاحمة الأسد على ذلك الجمهور المتبطِّل الذي يمضي أيام رمضان في متابعة المسلسلات التي لا يضاهي الإفراط فيها سوى الإفراط في الطعام في شهر الصيام.

على امتداد العالم هناك مهرجانات سينمائية، ومهرجانات مسرحية بعدد أقل بسبب تراجع المسرح، أما الدراما التلفزيونية فقلما حظيت بالاهتمام، ومن المستبعد أن تكون هناك شعوب أخرى تتفرغ على الأقل لشهر كل سنة لمتابعة هذا الكمّ من المسلسلات، وتصرف جزءاً آخر من وقتها للجدال والانقسام حولها. ذلك لا يتعلق فقط “مؤقتاً وحالياً” ببؤس السوريين الذي يريدون الهروب منه بأية تسلية، خاصة التسلية غير المكلِفة، إنه متصل بنمط سائد منذ بدء عصر القنوات الفضائية.

من دون أن نبخس مسلسل المعارضة حقه، جدير بالذكر أن معارضين قدّموا ويقدّمون نماذج لها بطبيعتها قيمة فنية أهم، والتنويه هنا بأفلام لمعارضين طرقت باب أهم الجوائز العالمية ومنها الأوسكار. لقد أوصلت هذه التجارب القضية السورية إلى الجمهور العالمي، ففي الأسبوع الثالث من شهر آذار، بعيداً عن اهتمام المعارضة وغالبية جمهورها عُرضت خمسة أفلام للمخرج المعارض الراحل عمر أميرالاي، مع فيلم جديد عنه للمخرجة المعارضة هالة العبدالله. وفي قلب باريس “مثلاً” شهدت الصالة التي عرضت قبل سنوات فيلم وعد الخطيب “إلى سما” ازدحاماً شديداً، ولم يتح لكثر من الجمهور حضوره بسبب شدة الإقبال مقارنة بمدة العرض، وكان الفيلم نفسه مع فيلم “الكهف” الذي حضرت فيه الطبيبة أماني بلور على نحو لافت، قد أحدثا صدى ممتازاً على خلفية الترشح للأوسكار عام2020.

نضيف إلى القائمة السابقة وئام بدرخان التي أنجزت أثناء حصار حمص مادةً بصرية حارة ومدهشة ومؤثرة، صارت لاحقاً المتن لفيلم “ماء الفضة”. في الحادي عشر من آذار نالت المخرجة ريم الغزّي جائزة سميرة الخليل عن فيلمها الأخير، وفي الاحتفال الذي أقيم في باريس تحدثت بتواضعٍ رئيسةُ لجنة التحكيم وعد الخطيب عن التدريب عن بُعد الذي تلقته من المخرجة ريم الغزي وهي تصور مواد فيلمية أثناء حصار حلب. واقتصار هذه الإشارات السريعة على النساء يتضمن استحقاقهن بالتأكيد، ويتضمن فوقه التفوقَ على سلطة الأسد التي تدّعي تقدّمها في مضمار حقوق النساء. في الواقع، الإنجاز البصري لهؤلاء هو التحدي الحقيقي أمام المنجز المعارض الجديد، أما جدل المعارضين والموالين الحالي حول المسلسلين فلعله حظي بمنافسة أمريكية مع وضع اثنين من آل الأسد على قائمة العقوبات لنشاطهما في تجارة الكبتاغون.

المدن

مقالات ذات صلة