الإعلام اللبناني يبخّ سمومه الطائفية: يا زمان الفيدرالية… والــ«ليرة بتسوى ليرة، درزي بوذي أو كاثوليك»!
يكاد ما حصل في الأيام الماضية يبدو مفتعلاً، إذ كيف يمكن تبرير تطييف أمر مثل مبدأ الوقت وتقسيم اللبنانيين حوله، غير بالافتعال وإلهاء الناس عن الأمور التي تمسّ حيواتهم اليومية؟ اللائمة لا تقع على طرف دون غيره، فالجميع مشاركون في الأزمة المفتعلة، وكلّهم أسهموا في تأجيج نيرانها ودمّروا ما تبقّى من هيبة للدولة أو على الأقلّ الإطار الذي يجمع اللبنانيين تحت اسم «الدولة»، والإعلام تولّى الدور الأكبر في ذلك على اختلاف أطيافه. باختصار، ما حصل ويحصل ليس سوى «كسوف» يُخفي وراء الكواليس ما هو أعمق وربّما أخبث.
هكذا، في جلسة «دردشة» بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، اتُّخذ القرار، بطلب من الأوّل واستجابة من الأخير، بتأجيل موعد تقديم الوقت ساعة واحدة، وقد اعتاد اللبنانيون أن يكون ابتداءً من منتصف ليل آخر يوم أحد في شهر آذار (مارس)، ما تسبّب في ضياع لدى مختلف القطاعات ولا سيّما تلك المرتبطة بعالم التكنولوجيا. السبب غير المعلن كان شهر الصوم، أي رمضان، رغم أنّ الصوم يتعلّق بتوقيت شروق الشمس وغروبها الذي لا يتغيّر مهما كانت الساعة. أمر يبدو أنّه فات بري وميقاتي قبل أن يفوت غيرهما من منتقدي القرار، ويبدو أيضاً أنّهما تعمّدا التحدّي والاستقواء مهما حاولا إخفاء ذلك. سرعان ما تلقّف المنتقدون الشرارة الانقسامية وزايدوا على مطلقَيها بتطييف القرار أكثر واستغلاله من أجل الشحن الطائفي والمذهبي وتحريض الناس على بعضهم الآخر، بدلاً من شرح تبعاته السلبية التي لا طابع طائفياً لها بتاتاً. باختصار، الجميع طيّف موضوعاً لا علاقة له بالطوائف لا من قريب ولا من بعيد.
على رغم انضمام سياسيّين ورجال دين إلى الحملة الطائفية، إلّا أنّ التأثير الأكبر كان للإعلام وخصوصاً LBCI وmtv وOTV وبشكل أقلّ «الجديد». هؤلاء ضخّموا أمراً لم يكترث له أحد بدايةً، إذ اقتصرت الانتقادات الأوّلية على المصاعب التقنية في عدم تغيير التوقيت، وأعلاها حدّةً لم يتعدَّ الحدّ السياسي وشجب كيفية اتّخاذ شخصَين قراراً بحجم بلد بعشوائية ومن دون الرجوع إلى أحد. القنوات المذكورة أخذت على عاتقها إخراج «الدراما» وتحفيز المزاج الانقسامي المقيت ولو ادّعت أنّ هدفها عكس ذلك، إذ أعلنت عدم الالتزام بالقرار والتحوّل إلى التوقيت الصيفي، كلّ على طريقتها.
أوّل من تصدّر المشهد كان LBCI وmtv اللتان أعلنتا عدم الالتزام بقرار بري/ ميقاتي وربطتا الموضوع بمخالفة «التوقيت العالمي» و«عزل لبنان» و«إرجاعه سنوات إلى الوراء». حجج بطّنتها بلهجة فوقية تحمل في طيّاتها شعوراً بالدونية للغرب وتبجيل «الرجل الأبيض». على سبيل المثال، حرصت mtv أن تشبّه الأمر بـ«خروج لبنان من المجتمع الدولي»، أو LBCI التي سألت «هل تعرفون ما هي العولمة؟». هكذا، على مدى يومين متتاليين، خصّصت كلّ من القناتين مقدّمتها الإخبارية كاملة فقط للحديث عن الموضوع بطريقة أظهرتهما كأنّهما منفصلتان عن الواقع ولا تكترثان لأيّ أمر آخر في البلد وتعتبران ألّا شأن يعلو أهمّية، معيشياً بالتحديد فيما وضعت LBCI الساعة على الشاشة بخطّ عريض. لكن بعد صبّ جام مشاعرها وتنفيس غضبها، عادت إلى «المنطق» في تقاريرها الإخبارية، فشرحت مفاعيل القرار على الأجهزة الإلكترونية والقطاعات الإنتاجية والمرافق العامة المرتبطة بالخارج وصعوبة تطبيقه في مهلة 48 ساعة بدلاً من ستّة أشهر.
أمّا mtv فهاجمت الرئيسَين بري وميقاتي بقوّة، إذ أوردت في مقدّمتها مساء السبت: «إلى الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي: عذراً، فالـmtv لن تلتزم قراركما الاعتباطي الخاصّ بتعليق العمل بالتوقيت الصيفي. فقراركما غير قانوني وغير منطقي وغير علمي، ويخرج لبنان نهائياً من التوقيت العالمي. هو غير قانوني لأنّ القرار المتعلّق بتقديم التوقيت المحلّي ساعةً واحدة يحمل الرقم 5 ويعود تاريخه إلى 20 آب (أغسطس) 1998، وبالتالي فإنّ تعديل قرار مجلس الوزراء يجب أن يتمّ بقرار معاكس في مجلس الوزراء، وليس بدردشة بينكما. فنحن، في المبدأ، يا حضرة الرئيسَين، ما زلنا نؤمن أنّنا في دولة قوانين لا في دولة «مرحبا يا خال»، كما تؤمنان أنتما على ما يبدو». ثمّ عادت وأوردت مساء الأحد: «بفضل ميقاتي هبّت الروح الطائفية من جديد، وارتسمت خطوط التماس المعنوية والنفسية، ولو من دون أكياس رمل ودشم هذه المرة. لقد عادت نغمة شرقية-غربية بفضل دهاء بري وضعف ميقاتي واستسلامه وتخاذله. فهل نحن يا ترى أمام رجل دولة يجمع ويوحّد، أم أمام رجل غير مسؤول يقسم ويشرذم؟». لكنّها عادت وأشادت برئيس الحكومة السابق تمام سلام، فقالت «لتصريف الأعمال مفهوم واضح ودور محدد، خصوصاً في غياب رئيس الجمهورية، وخير من أدار البلد بحكمة ورويّة بلا رئيس للجمهورية هو الرئيس تمام سلام الذي حكم نحو عامَين ونصف العام من دون أن يثير أيّ مشكلة، بل لعب دور الإطفائي للحرائق الكثيرة والكبيرة.
أمّا ميقاتي، فعلى العكس، يخلق كل يوم مشكلة، حتى وصل به الأمر إلى حدّ إثارة المشكلات الطائفية. وما يعوزه، يعلّمه ويلقّنه إيّاه الرئيس بري». ثمّ أردفت: «قد تكون إثارة قضية التوقيت هي لتغطية الصفقات والسرقات والعجز والفشل، من خلال العودة إلى اللغة الطائفية البغيضة. فهنيئاً لنا برئيس لمجلس النواب هو مايسترو اللعب على الوتر الطائفي عند الحاجة، وهنيئاً لنا برئيس للحكومة لا يهمّه إلّا مصلحته الشخصية، والغاية عنده تبرر الوسيلة». على ضفّة OTV، لم تكن اللغة أقلّ حدّة. لم تلتزم القناة بالإبقاء على التوقيت الشتوي وقالت في مقدّمتها مساء السبت: «في 17 تشرين الأول 2019، دفع خطأ البحث في فرض رسم على الواتساب بالناس إلى الشارع، فكانت بداية ثورة ما لبثت أن خطفتها الأحزاب قبل أن تستثمرها المنظومة، فتأتي النتيجة مجموعة مبعثرة من النواب، لا تتّفق إلا على عدم الاتّفاق. فهل يشكّل رفض التلاعب بالتوقيت يوم 25 آذار 2023، شرارة الصحوة اللبنانية المنشودة، العابرة للمناطق والطوائف والمذاهب والانتماءات السياسية، والتي لا سبيل سواها لإعادة بثّ الأمل في نفوس اللبنانيين، بإمكان عودة الروح إلى الوطن؟». أمّا في مقدّمة الأحد، فذكّرت بقرار مجلس الوزراء عام 1998 الذي بموجبه يتحدّد التوقيتَان الشتوي والصيفي كلّ عام، وأوردت: «يبدو أنّ كلّ المعايير العلمية والتقنية فقدت معناها في لبنان، إذ تكفي جلسة بين شخصيّتَين لا تختصران مؤسسّتَين، لاتّخاذ قرارٍ خلَط الحابل بالنابل وأضاف إلى المآسي مأساة، وإلى الفوضى مظهراً جديداً من مظاهر الفلتان. فأين الطائفية في الإصرار على تطبيق قرار لمجلس الوزراء (1998) وفي الاعتراض على قرار خاطئ؟ التهمة مردودة إلى أصحابها، الذين تعاملوا مع بروفا العصيان بإحدى طريقتين، إمّا تغريدات نيابية معبّأة باتّهامات ممجوجة من نوع الفدرلة والتقسيم، وإمّا تلويح غير مباشر باعتكاف ردّ عليه نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب اليوم…».
أمّا «الجديد»، فقد حرصت على اعتماد لغة حيادية وحتى «عقلانية» إلى حدّ ما، محاولةً إبعاد نفسها عن الأضواء. فرغم اعتمادها التوقيت الصيفي كما أخواتها الثلاث، إلّا أنّها برّرت الأمر بالتقني البحت، مكيلةً تهم الطائفية إلى معدّي القرار ومنتقديه على حدّ سواء، ومحيّدةً الأديان. فقالت في مقدّمة مساء السبت: «اعتباراً من سواد هذا الليل، ينقسم هلال لبنان على توقيتَين وساعتَين وزمنَين، توقيت عالمي يتقدّم وآخر محلّي متخلّف ساعة إلى الوراء. فيدراليون منذ التكوين، وهذه الفدرالية أسّسها رئيس مجلس النواب نبيه بري وسار بها الرئيس نجيب ميقاتي بموجب قانون الأمر والطاعة». وأكملت: «ماذا عن الجديد؟ إنّ هذه المؤسّسة تلتمس رؤية رجعية وطائفية في كلّ القرارات الواردة، مسلمين ومسيحيّين. فقرار بري-ميقاتي إنّما بُني على قانون «مرّقلنا ياها» العشوائي العابر للمؤسّسات، وهذا يُعدّ أسوأَ مؤشّر على طريقة إدارة البلد. ولم تقصّر القيادات المسيحية في ردّ الصاعِ الطائفي وفي التأسيس لفدراليات من ستّين دقيقة، ولم تقتنص فرصة الوحدة لتكوين موقف ناظم لمؤسّسات الدولة بأربعٍ وعشرين على أربعٍ وعشرين، وليس لساعة واحدة فقط. والكلّ جاءت ساعته ليشغّلها على توقيت شعبوي شتوي وصيفي». وأنهت: «هذا وقتنا، على خطّ وطني وعالمي. ساعتنا بعقارب لا يسيّرها رئيسان خرجا عن القانون، ولن نكون ملحقين في الوقت نفسه بأسباب مسيحية اتّبعت التقويم الطائفي».
أمّا بالنسبة إلى القنوات التي التزمت القرار وأبقت على التوقيت الشتوي، فتصرّفت NBN مساء السبت كأنّ شيئاً لم يكن، ولم تتطرّق إلى القرار في مقدّمتها لا من قريب ولا من بعيد، قبل أن تعود مساء السبت بردّ قاسٍ، فأوردت: «من يريد وضع البلاد على كف توقيت؟ ولمصلحة من إعادة عقارب الساعة ستّين سنة إلى الوراء؟ الجواب بات واضحاً لدى كلّ الناس. عقارب الطائفية ودعاة الفدرالية وكل من انطلق من خلفية كريهة مغلّفة بقشرة العالمية ليهجم على تدبير إداري ليس قرآناً ولا إنجيلاً ولا حتى دستوراً بل تدبير قابل للتعديل أو التأجيل أو التجميد من قبل من وضعه في الأساس والدلائل على ذلك كثيرة، من ميشال عون وقرار حكومته العسكرية غير الشرعية أصلاً إلى سليم الحصّ وضميره الذي أجّل التوقيت في تدبير سليم للوطن. سقط القناع. هي حملة عن سابق تصوّر وتوقيت بدأها صغار النفوس وتبعهم مزايدون وجُنّدت لها وسائل إعلام لطالما زايدت على بعضها بساعة «رايتينغ» وباتت اليوم تريد أن تحدّد وتقرّر وتتحدّث باسم كلّ اللبنانيين وتكاد تقول «أنا الدولة والدولة أنا» وللشعب «قوم لأقعد محلّك»».
من جهتها، اكتفت «المنار» كما «تلفزيون لبنان» بنقل الخبر من دون أخذ موقف من القرار، رغم أنّهما استمرّا على التوقيت الشتوي. أوردت «المنار» في مقدّمتها مساء السبت: «انقطاع بالاتصالات الهاتفية وانعدام تلك السياسية، وتضارب بالمواقف والساعات بين توقيت شتوي وآخر صيفي، دليل إضافي على أنّ خريف اللبنانيين مع العقلية السياسية السائدة طويل وطويل. حول الساعة الضائعة، نصب اللبنانيون كلّ متاريسهم، كما في شتّى الخلافات، فيما حقيقة البلد وعذابات أهله خارج وقت هؤلاء. فكرة الأزمة المتعاظمة والليرة المنهارة والأسعار المشتعلة بداعي الصوم، كلّها لم تعد ملحوظة أمام التضارب بالتوقيت بين القوى السياسية والطائفية. أمّا طائفة الفقراء والمعذبّين العابرة لكلّ المعارك الدونكيشوتية التي يخوضها هؤلاء، فواقفة على أبواب الأمل في عيد بشارة السيد المسيح وشهر رمضان الكريم». أمّا «تلفزيون لبنان»، فبدأ مقدّمته بجملته الشهيرة لتبرير التزامه قرار الإبقاء على التوقيت الشتوي: «أسعد الله مساءكم. السابعة والنصف في استوديوهات تلفزيون لبنان ولاحقاً التزاماً بقرار الحكومة إرجاء التوقيت الصيفي إلى 21 نيسان المقبل». لكنّه حرص على نقل بيان المكتب الإعلامي للصرح البطريركي الرافض للقرار، بعد ذلك مباشرةً.
أما وسائل التواصل الاجتماعي، فتحوّلت ساحة معركة استدعيت فيها كل الصور النمطية والانفطار المسبقة التي يحملها اللبنانيون لبعضهم بعضاً واستحالت المركز الأساس للّغة الطائفية والتشاجر كما السخرية، برزت بعض المواقف والمفارقات، كما عند النائب مارك ضوّ الذي غرّد على «تويتر» إبّان صدور قرار بري-ميقاتي: «يجب إلغاء كل مبدأ التوقيت الصيفي. لا معنى له بتاتاً. نريد زيادة في الإنتاجية وفواتير الكهرباء لن تتأثّر بالدوام الصيفي، وبلا وجع رأس الساعات»، ثمّ ما لبث أن تراجع عن موقفه بعد استعار الحملة الرافضة للقرار، فغرّد: «بدّهم يأخروا الوقت ويأجّلوا إنو يتقدّم، تحديداً كما يفعلون بالسياسة. رح قدّم ساعتي والسياسة مع تقدّم. ومهما حاولوا، الزمن رح يتقدّم ولبنان كمان. خلّيهم متأخرين بيشبههم». وفيما انتشرت تغريدات لم تلتزم حتى أدنى المعايير الإنسانية فتمنّت تفجير هذه المنطقة أو تهجير تلك الطائفة، عبّر النائب السابق نجاح واكيم عن المشهد بتغريدة: «لمن يعنيهم الأمر، إنّ السجال الدائر حول تقديم الساعة مقرف وسخيف. وكلّ من شارك فيه، وأياً يكن موقعه وصفته مقرف وسخيف. العمى بقلبكم، أهذا هو همّ اللبنانيين؟ استحوا». ثمّ تابع في أخرى: «درسنا في كتب التاريخ أن أحداث 1840-1860 المؤسفة وقعت بسبب خلاف بين ولدَين على لعب «الكلّة». تذكّرت هذا بمناسبة السجال المحتدم حول الساعة. قدّيش الساعة الآن؟ ولعت».
في كلّ الأحوال، مهما كانت الشرارة التي تسبّبت في الانفجار الطائفي، الثابت أنّنا في «زمان الطائفية»، وأنّ الانفجار هذا «كسف» الأزمات التي تطال اللبنانيّين على اختلاف طوائفهم، فهم يحملون «ليرة بتسوى ليرة، درزي بوذي أو كاثوليك». أما آن الأوان أن نتعلّم العلمانية من التاجر، كما غنّى لنا زياد الرحباني قبل أربعة عقود؟
نزار نمر- الاخبار