حفلة جنون: فتش عن السبب ومن يقف وراء هذه الحملة التحريضية الشعبوية؟
ما هو الوصف الذي يمكن إطلاقه على هذا الاختلاف المستجد حول اعتماد التوقيت الصيفي أو تأجيله طيلة فترة شهر رمضان، سوى أنها حفلة جنون بامتياز، بحيث راح المسؤولون يرمون الاتهامات ذات الخلفية الطائفية البغيضة عوض البحث عن الحلول للأزمات المتوالدة التي يمر بها لبنان، والنتيجة خسارة إضافية يتكبدها المواطن دون سواه؟
لم يكن الاجراء الذي اتخذه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بتأخير اعتماد التوقيت الصيفي إلا قراراً إدارياً صرفاً كان يمكن اعتماده قبل الدخول في أيام الشهر الفضيل، وهو ما حاول تفسيره عبر إعلانه أنه استشار وزير الأشغال العامة والنقل حول هذا الموضوع وتأثيره على حركة النقل العالمية قبل ستة أشهر، لكن النفوس المحتقنة سياسياً استغلت هذا القرار للبدء بحملة اتهامات ذات أبعاد طائفية تنذر بعودة شبح الحرب.
ألا يدرك رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي يقف وراء هذه الحملة وكل الحملات الشبيهة التي يهدف من خلالها إلى شعبوية تعيد له ما فقده من ثقة الناس به بعد خروج عمه الرئيس السابق ميشال عون من قصر بعبدا، أن حشد المسيحيين، كل المسيحيين، وراءه في هذه الحملة البغيضة سوف يولد شعوراً مماثلاً لدى المسلمين ويعود الانقسام الموجود أصلاً ليفرز البلد إلى فريقين متواجهين ليس سياسياً فحسب، بل وطائفياً وبالتالي تعود دوامة الفتنة وندخل في المحظور؟
عوض إثارة زوبعة اعتراض دفعت الرئيس ميقاتي إلى التمسك بقراره والقول إن “ما كتب قد كتب”، أليس من الأجدى بالقوى المسيحية التي توحدت وراء باسيل أن تتحد حول اسم أو اسمين ترشحهما للانتخابات الرئاسية لكي تعود الحياة الدستورية إلى الانتظام ويبدأ الحراك الفعلي لوضع قطار التعافي على السكة وانقاذ ما تبقى من دولة ومؤسسات؟
منذ انتهاء ولاية “العهد القوي” والبلاد تغرق أكثر فأكثر في جهنم التي وعدنا بها ولم يبادر المعنيون إلى التوافق على التوجه إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس عتيد للجمهورية، لا بل أكثر من ذلك لم يبادر هؤلاء إلى تسهيل عمل حكومة تصريف الأعمال والسماح لها بالاجتماع لاتخاذ القرارات الضرورية لتسيير أمور البلد، ولا يقبلون حتى بانعقاد جلسات تشريعية لمجلس النواب بحجة أنه في انعقاد دائم لانتخاب رئيس للجمهورية.
فتش عن الأسباب تكتشف أنها جميعها ذات خلفية طائفية بغيضة، وهذا ليس بغريب عن باسيل الذي عرقل صدور مرسوم تعيين مأموري الأحراج بحجة تفوق المسلمين على المسيحيين فيه. هل يعقل هذا التصرف؟ ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان يمكن فهم الاعتراض، لكن أن يطالب باسيل علناً ومن دون خجل باحتكار جميع التعيينات المسيحية في الوظائف العامة، ضارباً عرض الحائط بوجود “مسيحيين غيره” فهذا يدل على مستوى الحقد الذي يكتنف آذان هذا الرجل وعقله وقلبه.
لم يعد ينفع التذكير بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، فهذا الأمر أصبح ممجوجاً ومتكرراً ينطق به كل المسؤولين، لكن لا آذان صاغية والجميع ينتظر الوحي والالهام الذي سيهبط من الخارج، وعلى ما يبدو طال الانتظار وسيطول أكثر.
أنّى لنا بمسؤولين يكونون على قدر الآمال التي وضعها فيهم الشعب في الانتخابات النيابية الأخيرة؟ وأنّى لنا بأمثال كميل شمعون وفؤاد شهاب اللذين على الرغم من الاختلافات السياسية التي كانت تبعدهما عن أقرانهما المسلمين، إلا أن ما كان يجمعهما معاً هو الحس الوطني الرفيع والاحساس بالمسؤولية التي كانت تدفعهما إلى تقديم العام على الخاص.
لا مجال للمقارنة بين أمثال هذين الراحلين ومن وصل من بعدهما إلى سدة المسؤولية عند أبناء الطائفة المارونية الكريمة، فهل يقاس جبران باسيل بأحدهما؟ معاذ الله. وهل تصرفات “الحكيم” عندما يتعلق الأمر بمنافسة باسيل تشبههما؟ لا أعتقد.
ربما هذا قدر لبنان واللبنانيين، ولا راد لقضاء الله، على أمل أن الرياضة الروحية التي دعا إليها البطريرك بشارة بطرس الراعي في دير عنايا في الخامس من الشهر المقبل، يتحلى بها النواب المسيحيون المدعوون إليها أولاً، قبل أن يبدأوا بالصلاة من أجل خلاص لبنان وخلاصهم أيضاً من عقدة “الأنا أو لا أحد” والتي لا تقف عند حدود واحد منهم.
لا يستحق قرار تأخير اعتماد التوقيت الصيفي هذا الجنون، والمسألة كلها لن تتجاوز الأيام الثلاثين التي هي عدد أيام الشهر المبارك، وإن كان البعض غير قادر على تحمّل هذا الوضع المستجد والاستثنائي، فكيف يمكنه تحمّل شريكه في الوطن في الأيام والسنوات الطويلة المقبلة؟
حمى الله لبنان من هذا الجنون.
صلاح تقي الدين- لبنان الكبير