روسيا: نهاية قوة عظمى… والصين هي القائد!

نعيش في لحظات أولى مثيرة من عالم جديد. لن يلحظ الكثيرون تغيرا سريعا في أنماط حياتهم أو في العلاقات الدولية، إلا أن زلزالا حقيقيا يميد من تحت كل شيء.

وعلى غرار بريطانيا التي شهدت نهايتها كقوة عظمى عندما هُزمت في حرب العام 1956، أو ما يعرف في العالم العربي بـ”العدوان الثلاثي” ضد مصر، تشهد روسيا نهايتها الآن كقوة عظمى، حتى من قبل أن تُعلن هزيمتها في الحرب ضد أوكرانيا.

وتؤكد الاتفاقات الأخيرة بين بكين وموسكو، حقيقة أن روسيا لم تعد قوة اقتصادية مستقلة، بسبب تبعيتها شبه المطلقة للصين. كما لم تعد قوة قادرة على استخدام أسلحتها النووية، حتى ولو بقيت تمارس التلويح بها، على سبيل البقية الباقية من الغطرسة. ولم تعد قادرة من الناحية الفعلية على كسب الحرب، لأنها لا تستطيع مجاراة زخم الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا.

حقبة جديدة

اتفق زعيما الصين وروسيا، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، على أن العلاقات بينهما دخلت “حقبة جديدة”. والملمح الرئيسي في هذه الحقبة هو أن روسيا أصبحت أكثر اعتمادا على الصين في صادراتها وواردتها على حد سواء.

ويبلغ حجم التجارة بين البلدين الآن نحو 190 مليار دولار. و76 مليار دولار منها صادرات صينية الى روسيا، أما الباقي فإنه صادرات روسية إلى الصين، ما يعكس حجم اعتماد موسكو على الصين.

ووفقا للبنك المركزي الروسي، فقد قفزت حصة اليوان في تسويات التجارة الخارجية للصادرات إلى 16 في المئة، والواردات إلى 23 في المئة، مقارنة بـ4 في المئة في بداية عام 2022.

ومع العقوبات التي تم فرضها على روسيا لمنعها من استخدام نظام سويفت للتحويلات النقدية، فقد وجدت روسيا نفسها أكثر اعتمادا على اليوان الصيني وذلك إلى درجة أن “أصبح نصف السيولة الإجمالية لصندوق الرعاية الوطنية في روسيا، مقومة باليوان”، كما أصبح اليوان هو العملة الأكثر تداولا بين البنوك الروسية.

وعلى الرغم من طموحات الطرفين بأن تشكل العملات المحلية أساسا لنظام نقدي دولي جديد، إلا أن هذا الطموح ما يزال بعيد المنال، بالنظر إلى أن 90 في المئة من قيمة تجارة الصين الخارجية مقوّمة بالدولار.

وفي حين أن الصين لا تعتمد على روسيا وحدها فيما يتعلق بأمن الطاقة، فإن روسيا لا تجد، في ظل العقوبات الغربية، مفرّا من الاعتماد على الصين في استقرارها الاقتصادي. ومن الناحية العملية، فإن الاتفاقات الإستراتيجية التي تم توقيعها بين البلدين، تزيد في جعل روسيا سوقا للبضائع والخدمات الصينية. وإذا تم استثناء النفط والغاز، فإن روسيا ليست مُورّدا لبضائع وخدمات ذات قيمة إلى الصين. فالتبعية الاقتصادية من هذه الناحية أصبحت مطلقة إلى حد بعيد.

ولقد عوّلت روسيا في تبرير طموحاتها للاستيلاء على أراض أوكرانية، على قوتها النووية. ولوّحت باستمرار بأنها مستعدة لاستخدامها وكان ذلك بمثابة افتراض ظل سائدا لدى النخبة المحيطة بالرئيس فلاديمير بوتين الذي يقول إن روسيا قوة عظمى لأنها قوة نووية، ويجب احترام مطالبها وقبول شروطها على هذا الأساس.

إلا أن موقف الصين من التهديد بالقوة النووية كان واضحا خلال المحادثات بين الزعيمين. حيث قال الإعلان المشترك الذي أصدره الزعيمان إن روسيا والصين “ترفضان حدوث أيّ حرب نووية”، وأكّد أن “الجميع سيكون خاسرا في مواجهة مماثلة. وأنّه لا يمكن أن يكون هناك رابحون في حرب نووية، وأنّ (مثل هكذا حرب) يجب ألا تحدث أبدا”.

هذا التأكيد، جرّد روسيا من حقها في استخدام قوتها النووية، أو التلويح بها. وهو ما يمكن أن يعني أن الصين، وهي قوة نووية أيضا وتملك قدرات عسكرية أكبر بعشرة أضعاف ما لدى روسيا، قد نجحت في تحويل روسيا إلى تابع إستراتيجي لقوتها العسكرية. وبالتالي لتفرض عليها الالتزام بتجنب السلاح النووي، وبالسعي إلى معالجة الأزمات بالطرق السلمية والحرص على الرفاه والتنمية. وانطلاقا من هذا المعطى الأخير، فإن الصين ستكون بمثابة الضامن للرفاه الاجتماعي في روسيا. وبحكم الشراكة الراهنة، فإنها أصبحت الضامن الدولي الوحيد لأمنها أيضا. وهو وضع مماثل تماما لوضع الولايات المتحدة كضامن لأمن بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي.

نظام دولي جديد

الحديث بين الصين وروسيا عن نظام دولي جديد هو حديث أمان أكثر منه حديث إمكانيات فعلية ووقائع. فالنظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، يقوم على ركيزتين متوازيتين، ما تزال الصين وروسيا أبعد من أن يتوفرا على القدرة على كسرها أو حتى تحديها.

الركيزتان هما: التفوق العسكري، في جانبه التكنولوجي بالدرجة الأولى. والتفوق الاقتصادي الذي لا يضارع. إذ تحتل الولايات المتحدة وحلفاؤها في المعسكر الغربي أكثر من 60 في المئة من قيمة الناتج الإجمالي العالمي البالغ 101 تريليون دولار. بينما لا تحتل الصين وروسيا معا سوى 21 في المئة من هذا الناتج. وأكثر من ذلك، فإن الصين نفسها تابع اقتصادي للغرب. وبينما تستطيع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يفرضا عقوبات على الصين، فإن الصين لا تستطيع أن تفرض إلا عقوبات محدودة على هذين الطرفين. وفي الغالب، فإنها تضر بمصالحها فيهما إذا فعلت.

ولم تحتل خطة السلام الصينية سوى مكانا ثانويا في المباحثات بين جين بينغ وبوتين. وكل منهما نظر إليها من زاوية مختلفة.

والخطة كما طرحتها وزارة الخارجية الصينية في فبراير الماضي تتضمن 12 بندا لتحقيق تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، إلا أنها لم تدع موسكو صراحة إلى الانسحاب من الأراضي الأوكرانية، وظلت فكرة “احترام سيادة وسلامة أراضي جميع الدول”، بحسب ميثاق الأمم المتحدة، مجرد فكرة غامضة، إنما لسبب جدير بالاعتبار.

فقد أراد الرئيس الصيني من الخطة أن يضع حدودا للطموحات التوسعية الروسية، وأن يُظهر الصين أمام شركائها الاقتصاديين كقوة سلام، ولكن من دون أن يُلزم روسيا بشيء محدد. ومن الناحية العملية، فإن الغرض هو أن يترك روسيا، بعد تجريدها من حق استخدام قوتها النووية، لتواجه مصيرها في أوكرانيا، ولتعترف بالحقائق بنفسها، بينما تكسب الصين تمددا إستراتيجيا، اقتصاديا وأمنيا، داخل روسيا وفي محيطها الإقليمي الخاص.

ونظر الرئيس بوتين إلى المبادرة من زاوية أنها غير قابلة للتطبيق بسبب امتناع أوكرانيا وحلفائها عن القبول بها. في المقابل، شكك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالمبادرة قائلا إنه ينتظر ردا من بكين.

لكن الرد لن يأتي على الأرجح. لأن المبادرة لم تحدد عناصر واضحة لكي يمكن قبولها أو رفضها. وتعمدت بقاء تلك العناصر غامضة لكي تحقق غاية النفوذ الصيني في روسيا.

وكانت الخارجية الأميركية أكثر فصاحة عندما شككت بالمبادرة قائلة “على العالم ألا ينخدع بأيّ قرار تكتيكي من جانب روسيا، بدعم من الصين أو أيّ دولة أخرى، بتجميد الحرب بشروطها”. فالصين لم توجه إدانة للغزو الروسي، ولم تدع موسكو إلى الانسحاب من الأراضي الأوكرانية، وهي توفر الدعم الاقتصادي لموسكو بتجاوز العقوبات المفروضة عليها.

وتعرف بكين أنه كلما زادت موسكو تورطا في الحرب، كلما زادت حاجتها إلى الصين. والحرب لا توشك على الانتهاء. فالحلفاء الغربيون لأوكرانيا قرروا زيادة دعمهم العسكري لها، إلى جانب دعم اقتصادي مفتوح.

روسيا المنبوذة

يسود اعتقاد بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال ضد الرئيس بوتين لارتكابه جرائم حرب في أوكرانيا، أنه أصبح منبوذا، ولم يعد بوسعه أن يقوم بزيارة نحو 120 دولة في العالم صادقت على ميثاق تشكيل هذه المحكمة.

إلا أن بوتين لن يفقد قدرته على النوم من جراء ذلك. لاسيما وأنه قليل السفر إلى الخارج أصلا. ويكفيه الآن أن جين بينغ وجه له الدعوة لزيارة الصين خلال هذا العام لكي يشعر أن هناك مكانا ما يزال من الممكن أن يذهب إليه.

ولكن روسيا باتت هي المنبوذ الأهم. فنسف خطوط الغاز مع أوروبا (نوردستريم 1 و2)، كان علامة أولى على استعداد أوروبا لنسف كل علاقاتها مع روسيا. والعقوبات التي تم فرضها عليها، من غير المرجّح أن يتم رفعها، حتى ولو انتهت الحرب غدا.

ويركز الحلفاء الغربيون لأوكرانيا على فرض الهزيمة العسكرية على روسيا، لأنهم لم يعودوا يرغبون بمفاوضات، تعني رفع العقوبات وإعادة مياه العلاقات التجارية والسياسية إلى مجاريها. ومحاولات موسكو لاجتذاب بعض بلدان العالم الثالث إلى صفها زادت من قوة الاعتقاد بأن روسيا أصبحت تحديا إستراتيجيا رغم أنها غير مؤهلة.

الثقة انهارت. ومع تمسك روسيا بالسعي لبناء “نظام عالمي جديد”، فإن تلك الثقة دُفنت. ولم تعد هناك فرصة لإعادة احيائها. وإذا كانت هناك إمبراطورية روسية عظمى في السابق، فإن الإمبراطوريات الصينية لم تكن أقل عظمة. الأولى كانت إمبراطوريات استبداد. أما الثانية فقد كانت إمبراطوريات حكمة.

والنهضة الصينية الحديثة، التي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، أعادت تأهيل “التنين الصيني” لكي يتوسع، بنموذج تنموي يقوم على مبادئ التعاون السلمي، وشق الطرق للفرص.

خلال هذا العام سوف يعود الرئيس جين بينغ ليجتمع مع زعماء آسيا الوسطى، الحديقة الخلفية السابقة لروسيا، ليفرض نفوذ بلاده عليها.

وكان جين بينغ قام برحلة في سبتمبر الماضي إلى تلك الدول في إطار ما وصف بأنه “إستراتيجية لكسر الطوق الذي تفرضه الولايات المتحدة على الصين من خلال ‏توسيع ‘دائرة الأصدقاء’ في منظمة شنغهاي للتعاون”.‏

وإلى جانب الصين، تضم منظمة شنغهاي التي تأسست في العام 2001، الهند وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وباكستان وأوزبكستان، كما تضم دولا بصفة مراقب مثل أفغانستان، بيلاروسيا، إيران ومنغوليا، وأذربيجان، أرمينيا، كمبوديا، نيبال، وتركيا وسريلانكا.

والعديد من دول هذه المنظمة كانت دولا تدور في فلك روسيا، وبعضها كان جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق. إلا أن روسيا التي أصبحت تابعا للصين، إنما تركت قيادة هذه المجموعة لمن يقدر على تحمل تكاليفها.

رحلة جين بينغ إلى موسكو، والمعاهدات التي تم توقيعها خلال هذه الرحلة، صادقت على منعطف تاريخي سوف تمتد آثاره لما لا يقل عن نصف قرن. فما نراه الآن، هو عالم جديد حقا، لم تعد روسيا فيه قوة عظمى. وأصبحت بفضل مغامرة بوتين في أوكرانيا، مجرد قوة إقليمية فرعية، حتى وإن كانت تملك أسلحة نووية. دول أخرى في العالم، مثل كوريا الشمالية والهند وباكستان تملك أسلحة نووية. إلا أنها تظل قوى أقل من أن تشكل تحديا يسمح بإعادة تفصيل العالم على مقاسها الخاص، مثلما حاول بوتين أن يفعل.

لقد أراد الرئيس بوتين شيئا، فحصل على عكسه. التاريخ سوف يذكره على أنه “الإمبراطور” الذي دمر الامبراطورية وليس الذي أعاد بناءها.

العرب

مقالات ذات صلة