غصن الزيتون… أكثر من مجرد رمز للسلام!

حكاية “غصن الزيتون” هي حكاية ذات بعدين، الأول أسطوري امتزجت فيه الحكاية الأساسية بالخيال والأوهام أحياناً، وهو مرتبط بدوره كرمز من رموز السلام في العالم قديماً وحديثاً. فيما البعد الثاني لهذه الحكاية هو بعد واقعي ملموس لا يمكن تجاهله أو القفز عليه، لأنه بعد غذائي وطبي واقتصادي في آن. مع ذلك حاز غصن هذه الشجرة على اهتمام كبير في مختلف العصور، لأنه جسد انتصار الخيال الإنساني على القيم المادية من خلال ما تحمله الحكاية، فأسطورته كرمز للسلام جعلته أشهر حتى من الشجرة ذاتها، وارتبطت ذهنياً بشكل وثيق بأسطورة الطوفان في عصر النبي نوح، الذي يرجع له الفضل في إنقاذ الإنسانية جمعاء من المحو والانقراض، حتى أن النبي نوح وصف بأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم، لما كان له من فضل عليها عقب صنعه سفينته الشهيرة التي أقلت أزواجاً من كل جنس وجابت البحر بحثاً عن اليابسة.

الطوفان والنبي نوح

الطوفان الذي هرب منه النبي نوح تشكل وفق دراسات أكاديمية في جامعة كولومبيا الأميركية، من ذوبان الجليد في الحقبة الجليدية قبل 12 ألف سنة، ثم اتجه قبل سبعة آلاف سنة تقريباً نحو تركيا، لكن دراسة المتحجرات وجدت أن سلسلة من الفيضانات وقعت في سومر وبلاد الرافدين أيضاً (2000-4000 ق.م)، لذلك ظهرت روايات عدة عن أسطورة الطوفان ونجاة العرق البشري منه، كما ظهرت شخصيات عدة مشابهة لشخصية نوح، وتكرر ظهور حكايات مطابقة لحكايته في حضارات قديمة كثيرة، ومنها شخصية “ديوكاليون” والد “هيلين” جد اليونان كلهم، و”أتراحاسيس” في ملحمة السومرين وملكة الأيرلنديين في حقبة الطوفان الأيرلندي.

رواية دينية

اقترن غصن الزيتون كرمز للسلام بأيقونة أخرى هي الحمامة، مع ذلك تمكن بطريقة ما أن يسرق الأضواء والاهتمام كله منها، مع أن الرواية الأصلية حوله هي رواية دينية مقتبسة من حكاية نوح وسفينته. وتقول الرواية الأساسية إن نوح بعد أن تاه في عرض البحر وهو يحمل ما تبقى من عرقنا في سفينته لينجو به من الانقراض، أرسل طيوراً كثيرة لاستكشاف اليابسة ولم يعد منها سوى الحمامة، وعلى قدميها آثار طين وفي فمها غصن الزيتون الشهير هذا. أي أن الحمامة أنجزت مهمة إنقاذ عرقنا، مع ذلك ذهب الفضل كله للغصن الأخضر. وتبين الروايات المتعاقبة أيضاً أن فضل الشجرة المثمرة ذاتها التي جاء منها الغصن، التي ورد ذكر منافعها الصحية وفوائدها الغذائية لاحقاً في الكتب السماوية وتحديداً الإنجيل والقرآن، قد أسهم في ترسيخ أسطورة الغصن وتعميق قيمته في الواقع.

حكاية الغصن

بدأت حكاية الغصن من اليونان حيث اتخذوا منه شعاراً للألعاب الأولمبية، فاستخدموه كشعلة لأن الغصن يتقد بقوة، وكان يرمز عندهم إلى القوة وليس للسلام. لكن الحضارات القديمة إجمالاً اعترفت بأسطورة الغصن المربوط بالسلام، لأن تلك الحضارات التي تعرفت على كيفية زراعة شجرة الزيتون ونوافعها وفضلها بعد حكاية نوح، تعلمت من خلال التجربة العملية أن هذه النبتة تحتاج إلى ظروف خاصة جداً لتزهر وتثمر، فهي نبتة معمرة ويقال إن منها ما يعيش أكثر من ألف سنة، إضافة إلى ذلك تحتاج الشجرة إلى وقت طويل لطرح ثمارها، كما تحتاج إلى أجواء معينة ودرجات حرارة مناسبة، لذلك ربطت معظم الحضارات بين ازدهار الشجرة وإحلال السلام، إذ يستحيل أن يكتمل نمو الشجرة في فترات الحروب التي تعكر صفو نموها.

فوائد الورقة والغصن

وفق الرواية الدينية لحكاية النبي نوح مع الحمامة، فقد تعرف الناس على غصن شجرة الزيتون قبل أن يعرفوا الشجرة كلها وقبل أن يدركوا كل مناقبها ومنافعها، بمعنى أن الجزء وهو الغصن، فاقت أهميته الرمزية الكل وهو الشجرة كاملة. ولعل من المفارقات أن أهمية الغصن تجلت في ما بعد واقعياً من خلال إدراك الشعوب لفوائده المباشرة ضمن بقية مكونات الشجرة. فورق الزيتون يغلى ويشرب لعلاج أمراض مزمنة مثل السكري والضغط، حتى أن بعض الناس في منطقة الجزيرة العربية التي يندر فيها نمو هذه الشجرة، يسعون إلى الحصول على أوراقها أكثر من ثمارها أو زيتها الثمين. كما أنها تمضغ لمعالجة أمراض الفم والأسنان والتهابات اللثة، فيما الغصن ذاته أو الجذع يستخدم كنوع فاخر من الحطب، لأن “زيته منه وفيه” وفق الروايات المتناقلة عن كبار السن والمزارعين، مما يمنحه جودة احتراق عالية حتى في الأجواء شديدة الرطوبة، هذا عدا عن أهمية الثمرة التي تؤكل بعد معالجتها وتتحول إلى طبق مرغوب على كل الموائد. أما عصر الثمار حين تصل إلى اللون الأسود كعلامة على اكتمال نضوجها، فينتج أنواعاً فاخرة من الزيت الذي يصعب تعديد كل صفاته ومناقبه.

في يومنا هذا

ما زالت رمزية غصن الزيتون كأيقونة للسلم قائمة حتى هذه اللحظة، ولكن ذكر هذا الرمز يزداد في فترة النزاعات والحروب، لذلك جعلت منه الأمم المتحدة رمزاً لشعارها الذي يتعانق فيه غصنا زيتون ويحيطان بالكرة الأرضية على شكل قوسين في الخلفية الزرقاء الفاتحة الشهيرة. ولعل خير ما عبر عن هذه الرمزية سياسياً في وقتنا المعاصر جملة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الشهيرة: “لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي”، التي قالها أمام الأمم المتحدة قبيل توقيع اتفاقات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في محاولة لإنهاء النزاع الدامي الذي امتد لعقود طويلة.

اندبندنت

مقالات ذات صلة