زلزال سياسي يضرب عهد ماكرون…
قطعاً، لا تصلح المقارنة بين عهد الرئيس إيمانويل ماكرون الأول (2017– 2022) وعهده الثاني الذي بدأ الربيع الماضي، وسيمتد حتى عام 2027.
ففي السنوات الخمس الماضية، كان ماكرون «السيد» المطلق الذي يمسك بمفاصل الجمهورية التشريعية والتنفيذية والإدارية. وصل إلى السلطة حاملاً مشروعاً إصلاحياً طموحاً، ومتمتعاً بأكثرية فضفاضة في الجمعية الوطنية التي مكّنته من أن يشرّع كيفما يشاء، وأن يقر القوانين التي يريد بفضل هذه الأكثرية المطواعة. وعلى الرغم من فوزه للمرة الثانية بالرئاسة، فإن الوضع تغير من النقيض إلى النقيض بسبب فقدانه الأكثرية المطلقة، ما فرض عليه وعلى حكومته المساومة، والسعي لاجتذاب الأصوات التي تنقصه، بالاستناد أحياناً إلى نواب اليمين التقليدي (حزب الجمهوريين) الذي يتمتع بـ61 مقعداً في البرلمان، وأحياناً أخرى إلى اليسار الاشتراكي المنضوي في إطار تحالف واسع يشكل كتلة من 149 نائباً.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تلجأ فيها إليزابيث بورن، رئيسة الحكومة، إلى المادة 49- 3 من الدستور، لتمرير مشروعات القوانين؛ إذ إنها استخدمتها 11 مرة في الأشهر الأخيرة، وهي لم تمضِ بعد عاماً واحداً في منصبها. بيد أن ملف إصلاح قانون التقاعد لا يشبه في شيء الملفات الأخرى، وسبق لماكرون أن سعى لإنجازه في عهده الأول، ثم تراجع عنه بسبب المعارضة الشديدة التي واجهها.
ومع اشتداد جائحة «كوفيد- 19»، سحب الملف من التداول، ليجعل منه المرشح إيمانويل ماكرون، بمناسبة حملته الانتخابية، إحدى أولوياته الرئيسية. وسعت بورن، بمواجهة الرفض العميق لمشروع الإصلاح سياسياً وشعبياً ونقابياً، إلى بناء أكثرية من خلال التفاهم مع اليمين التقليدي الذي قدمت له بعض التنازلات، بمناسبة مناقشات مجلس الشيوخ؛ حيث يتمتع بالأكثرية.
بيد أن آمال ماكرون وبورن تبددت مع اقتراب الاقتراع النهائي في البرلمان، أول من أمس، على مشروع القانون، بسبب التصدعات التي أصابت صفوف «الجمهوريين». ولأن رأسَي السلطة التشريعية حرصا على عدم الخوض في رهان غير مضمون النتائج، فقد اختارا تمرير القانون من غير تصويت النواب، باللجوء مجدداً إلى المادة 49- 3. والمبتغى من هذا اللجوء أن الحكومة ترهن بقاءها برفض البرلمان سحب الثقة من الحكومة، في حال تقديم عريضة بذلك، انطلاقاً من أن ماكرون هدّد مسبقاً بأن سقوط الحكومة سيعني العودة إلى صناديق الاقتراع لانتخابات نيابية جديدة، لا يرغب فيها «الجمهوريون» مخافة مزيد من الخسائر في المقاعد التي يحتلونها في البرلمان الحالي.
لكن ما لم يؤخذ كفاية في الاعتبار هو الرفض السياسي والنقابي والشعبي المتواصل لخطة الحكومة، وهو ما تمثل في أيام التعبئة الثمانية التي أنزلت ملايين المواطنين إلى الشوارع، وفي الإضرابات المتلاحقة في قطاعات أساسية، مثل النقل بمختلف أنواعه، والتعليم والكهرباء والمصافي والمحروقات والنظافة… لكن الرهان الأخير كاد أن يكون خاسراً، إذ إن الحكومة لم تنجُ من الاستقالة إلا بفارق 9 أصوات. والسبب في ذلك أن ثلث نواب «الجمهوريين» صوتوا لصالح العريضة الرئيسية الداعية إلى رحيل الحكومة، الأمر الذي يدل على أزمة وجودية يعيشها الحزب المذكور الحائر بين ناخبيه والمزاج الشعبي من جهة، ومصلحته السياسية المباشرة التي تقضي بمنع اللجوء مجدداً إلى صناديق الاقتراع من جهة ثانية.
يقول الدستور إن فشل عريضة سحب الثقة يعني آلياً أن مشروع قانون التقاعد قد أُقر، ولم يعد ينقصه سوى أن يصدره رئيس الجمهورية بمرسوم ينشر في الجريدة الرسمية. لكن الأمور ليست هذه المرة بهذه السهولة؛ إذ ثمة عقبتان قانونيتان: الأولى اسمها المجلس الدستوري الذي سيدعى إلى النظر في مدى مواءمة نص القانون الجديد مع النصوص الدستورية؛ والثانية عنوانها الاستفتاء بمبادرة شعبية التي يتيحها الدستور ولكنها صعبة الشروط. وإذا كان حكم المجلس الدستوري يمكن أن يصدر خلال شهر، فإن الاستفتاء الشعبي قد يأخذ البت به ما لا يقل عن 9 أشهر. وما دامت هاتان العقبتان لم تُرفعا، فإن القانون يبقى عملياً مجمداً. ثم لا يمكن تجاهل الرفض السياسي والنقابي والشعبي.
منذ الإعلان عن سقوط طرح الثقة بالحكومة، أكدت المعارضات المختلفة يميناً ويساراً أن الحراك متواصل. فنواب تجمع اليسار والبيئويين سارعوا لتأكيد أن «المعركة مستمرة». واعتبر جان لوك ميلونشون، زعيم التجمع غير الرسمي والمرشح الرئاسي السابق، أن «الرفض الشعبي يجب أن يتواصل مهما كانت الظروف». وبينما رأت ماتيلد بانو، رئيسة مجموعة نواب حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد، أن حكومة بورن «قد ماتت»، قالت مارين لوبان، رئيسة مجموعة نواب اليمين المتطرف (التجمع الوطني) إنه «يتعين على بورن الاستقالة، وإن لم تستقل فيتعين على ماكرون إقالتها».
نقابياً، ثمة قرار يقول بالاستمرار في التعبئة الشعبية، وسيكون يوم الخميس القادم بمثابة المؤشر لمدى تواصلها وقوتها. وأكد الاتحاد العمالي العام الذي يعد الأكثر تمسكاً بمواصلة الحراك أن «لا شيء سينال من عزم عمال» على الاستمرار، بينما حذر أمين عام الفيدرالية الديمقراطية للعمل، لوران بيرجيه، من اتساع موجة الغضب والعنف، بسبب الأسلوب الذي اختارته الحكومة في إقرار القانون.
وبرز العنف بقوة عقب التصويت على الثقة ليل الأحد في باريس وكثير من المدن؛ حيث اندلعت مواجهات بين المتظاهرين والقوى الأمنية التي تُتهم بالإفراط في استخدام العنف وتوقيف الأفراد. وليل الاثنين وحده تم توقيف أكثر من 300 شخص غالبيتهم في باريس؛ حيث أقيمت المتاريس وأشعلت الحرائق واندلعت اشتباكات.
واضح أن الكرة راهناً في الملعب الرئاسي. ومن المنتظر أن يكشف ماكرون عن خططه في مقابلة متلفزة اليوم، علماً بأنه بقي بعيداً عن الواجهة في الأيام الأخيرة، تاركاً لرئيسة حكومته إدارة معركة التقاعد. والحال أنها تخرج منها منهكة، وبالتالي، فإن مصيرها على رأس الحكومة سيكون مطروحاً، إن لم يكن في الأيام القليلة المقبلة فسيتم لاحقاً. إلا أن بورن لا تريد الرحيل، ولا أن تكون كبش الفداء. ونقلت عنها وكالة «الصحافة الفرنسية» أنها «عازمة على مواصلة السير بالإصلاحات الضرورية، بالتعاون مع وزرائها»، بينما يؤكد مقربون منها أنها «ما زالت وبشكل ديمقراطي رئيسة الحكومة».
بيد أن غالبية المراقبين يرون أن ماكرون لا يستطيع إكمال السنوات الأربع المتبقية له في القصر الرئاسي، مع حكومة ضعيفة غير قادرة على حمايته. ومنذ مساء الاثنين، كثف ماكرون من اتصالاته ومشاوراته مع رئيستَي الحكومة والبرلمان وقادة الأحزاب الداعمة له، بحثاً عن مخارج ووسائل جديدة لقلب صفحة حرب التقاعد، وتوفير دينامية جديدة لعهده. وأفادت مصادر «الإليزيه» بأنه ليس عازماً؛ لا على حل البرلمان ولا على إقالة الحكومة ولا السير بمشروع استفتاء شعبي. ولكن، إذا سُدت هذه المنافذ، فإن التساؤل يتناول ما يريد حقاً أن يلجأ إليه، وهو الذي يبدو معزولاً في قصره، ولا يتمتع بأكثرية يمكن الركون إليها في البرلمان، ولا إلى حزب «الجمهوريين» الذي كشف عن ضعفه وعن انقساماته العميقة. ونقل أيضاً أنه طلب من مستشاريه ومن الشخصيات التي يلتقيها أن تقدم له أفكاراً جديدة، حول كيفية تغيير «نهج الحكم»، وهو ما كان قد وعد به ليلة فوزه في المعركة الرئاسية، وحول أجندة الإصلاحات التي ينوي مواصلتها.
إلا أن ما حصل في الأشهر الماضية لا ينُم أبداً -وفق المراقبين- عن رغبة حقيقية في التغيير. لكن ماكرون، على الرغم مما سبق، لا يستطيع الانغلاق في التركيبة الحالية التي بان ضعفها وهشاشتها.
ومجدداً، تُسمع أصوات من داخل اليمين التقليدي تدعو إلى الاتفاق علناً مع ماكرون، على برنامج حكم بشكل واضح ورسمي، على غرار التحالفات التي تعرفها بلدان أوروبية أخرى، مثل ألمانيا أو بلجيكا أو غيرهما، لتوفير نوع من الاستقرار السياسي، والسير إلى الأمام في عدد من المشروعات الإصلاحية.
ميشال ابو نجم- الشرق الاوسط