ما الهدف من تصنيف الدول على أنها من العالم الأول أو الثاني أو الثالث؟

قد تكون تقارير منتدى الاقتصادي العالمي وسائر منظمات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية العاملة في مجالات التصنيف، مفيدة على صعيد الأرقام والإحصاءات لوضع دول العالم الأول أمام مسؤولياتها في ردم الهوة مع الدول النامية ودفعها إلى تنمية اقتصادها للحاق بالركب. لكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو ما الهدف من تصنيف الدول على أنها من العالم الأول أو الثاني أو الثالث؟

هذا السؤال حاول أن يجيب عليه الباحث إيفان أندروز على موقع “الاشتراكية العالمية”، فاعتبر أن الناس يستخدمون مصطلح “العالم الثالث” كاختصار للدول الفقيرة أو النامية. على النقيض من ذلك، توصف الدول الأكثر ثراء مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية بأنها جزء من “العالم الأول”. فمن أين أتت هذه الفروق ولماذا لا نعرف ما هو “العالم الثاني”.

نشأ نموذج “العوالم الثلاثة” للجغرافيا السياسية للمرة الأولى في منتصف القرن العشرين كوسيلة لرسم خرائط لمختلف اللاعبين في الحرب الباردة. ينسبها المؤرخون إلى عالم الديموغرافيا الفرنسي ألفريد سوفي الذي صاغ مصطلح “العالم الثالث” في مقال عام 1952 بعنوان “ثلاثة عوالم، كوكب واحد”. في هذا السياق الأصلي، شمل العالم الأول الولايات المتحدة وحلفاءها الرأسماليين في أماكن مثل أوروبا الغربية واليابان وأستراليا. وتألف العالم الثاني من الاتحاد السوفياتي الشيوعي و”أقماره الاصطناعية في أوروبا الشرقية”. وشمل العالم الثالث جميع البلدان الأخرى التي لم تكن متحالفة مع أي من الجانبين في الحرب الباردة. كانت هذه في كثير من الأحيان مستعمرات أوروبية سابقة فقيرة وشملت عموماً جميع دول أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وآسيا، أو ما سمي دول عدم الانحياز.

العالم الثالث واستطلاعات الرأي

لا تزال الاقتصادات القوية في الغرب توصف أحياناً بأنها “العالم الأول” اليوم، إلا أن مصطلح “العالم الثالث” لا يزال الأكثر شيوعاً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وتغير ما يشير إليه من دول “عدم الانحياز” ليشمل العالم النامي كله. واختفى “العالم الثاني” السوفياتي في غياهب النسيان. من جهة أخرى هناك العديد من الأكاديميين المعاصرين يجدون أن تسمية “العالم الثالث” عفا عنها الزمن وقد بدأ اعتماد مصطلحات جديدة مثل “البلدان النامية” و”البلدان المنخفضة الدخل” و”الشريحة الدنيا من البلدان المتوسطة الدخل” إلخ.

وفي نهاية أو بداية كل عام تنشر مؤسسات وشركات تعنى بالإحصاءات واستطلاعات الرأي والتصنيف، لوائح كثيرة تضع فيها أغنياء العالم في مراتب أو تضع الدول في ترتيب من الأول إلى العاشر بحسب درجة رفاهية مواطنيها أو بحسب الأمن والتعليم أو الحوكمة والتأمينات الاجتماعية والدخل القومي. وغالباً ما تبقى الدول في مراتبها عاماً بعد عام، مع تغييرات طفيفة قد ترفع دولة مرتبة أو مرتبتين عن العام الماضي. فمثلاً بات معروفاً أن دول أوروبا الإسكندنافية تتربع في أعلى لائحة الدول المصنفة رغيدة العيش، ومن بينها الدنمارك في الرفاه وفنلندا في التعليم والسويد في التأمينات الاجتماعية، إلخ، وغالباً ما تتربع الصين على لائحة الدولة ذات الدخل القومي الأسرع نمواً عاماً بعد عام، حتى خلال جائحة كورونا في الأعوام الماضية. أما الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية فتتبوأ لوائح الصناعات الثقيلة والدقيقة المرتبطة بالإلكترونيات وصناعة الآلات الضخمة العسكرية والمدنية.

لكن هذه المعلومات العامة يمكنها أن تصبح أكثر تفصيلية عندما يتم تصنيف الدول في مراتب الأسوأ أي بالتصنيف السلبي، فيقال إن الصومال أو العراق أو أفغانستان الأسوأ أمنياً. أو أن لبنان ومن بعده العراق ومن بعده ليبيا وهكذا دواليك الأسوأ من حيث الفساد الإداري. وعلى رغم أن وضع بلد على لائحة الأسوأ بين البلدان يسبب الضرر بسمعته إلا أن اللائحة بعدما تنشر تصبح مرجعاً لوسائل الإعلام من دون التدقيق في مصدرها أو الطريقة المتبعة في التصنيف، ما يعطي شركات الإحصاء واستطلاع الرأي القدرة على وضع لوائح تتماشى مع سياساتها، كأن تكون الدول الأسوأ في لوائحها دائماً هي الدول المعترضة على السياسة الأميركية العالمية أو حليفة روسيا والصين وإيران. بينما تتبوأ المراتب العليا في اللوائح الدول الحليفة التي تدعم النظام السياسي العالمي الذي تديره الولايات المتحدة والعكس أيضاً. ويمكن لهذه الاستطلاعات أن تؤثر في الرأي العام، فتؤدي استطلاعات للرأي تجرى على عدد عيّنات عشوائية من المواطنين حول سؤال معين، إلى خلق رأي عام مبني على نتيجة هذا الاستطلاع. وهذا بدوره يعطي شركات استطلاعات الرأي دوراً كبيراً على الصعيد السياسي في الدول الليبرالية بسبب قدرتها على الحشد لفريق من دون آخر والتأثير في رأي الجمهور. ولهذا نجد في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا منظمات معنية باستطلاعات الرأي تابعة للأحزاب السياسية المتنافسة. تقوم ببث إحصاءات حول عدد كبير من القضايا بشكل دائم وتحديداً خلال الحملات الانتخابية في سباق على استقطاب الرأي العام المتقلّب.

كيف يتم جمع المعلومات من أجل التصنيف؟

خلال البحث عن شركة إحصاءات عالمية تمكنا من جمع معلومات حول كيفية إجراء استطلاعات الرأي وكيفية وضع لوائح المراتب التي يتم من خلالها تصنيف الدول، فدخلنا إلى موقع مركز “بيو” الأميركي المعني بالدراسات الإحصائية الدولية، وتعود أصوله إلى عام 1990 بعد تأسيسه من قبل صحيفة “تايمز ميرور” وسمي “مركز بيو لأبحاث الشعب والصحافة”.

في عام 2005، أطلق “مركز بيو” للأبحاث مشروعاً للاتجاهات الاجتماعية والديموغرافية الذي يجمع بين أبحاث المسح الأصلية وتحليل مسوحات مكتب الإحصاء الأميركي ومصادر البيانات الأخرى. وفي تعريف المركز عن نفسه “نحن غير ربحيين وغير حزبيين وغير مناصرين. نحن نقدر الاستقلالية والموضوعية والدقة والصرامة، والتواضع، والشفافية، والابتكار. يجمع خبراؤنا بين مهارات الملاحظة ورواية القصص مع الدقة التحليلية التي يتمتع بها علماء الاجتماع. أما عن أهداف المركز وهي الأهداف نفسها التي تعلن عنها سائر المراكز الأخرى أي وضع صانعي السياسات والجمهور أمام “مرآة اجتماعية” لعكس “مطالب وآراء وأصوات مجتمعنا وخلفياته ووجهات نظره العديدة”.

هذا في ما يخص المراكز الخاصة، أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فيقوم سنوياً بإصدار مؤشر التنمية البشرية الذي يصنف 189 دولة وفقاً لأدائها مقابل مجموعة من المعايير التي تتوافق مع الصحة والتعليم والدخل، كما جاء على موقعه الإلكتروني أو يتم التصنيف وفقاً لحياة طويلة وصحية والقدرة على الوصول للمعلومات وللمعرفة والمستوى المعيشي اللائق. ويقول التقرير إنه على رغم عدم وجود مفاجأة تذكر بشأن البلدان الموجودة في أعلى وأسفل دليل التنمية البشرية، إلا أن قراءة هذه الأرقام تدلل على نتائج قاتمة. مثلاً تتصدر النرويج وسويسرا وأستراليا وإيرلندا وألمانيا مؤشر التنمية البشرية، في المقابل تأتي النيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وتشاد وبوروندي في المراكز الخمسة الأخيرة. ففي الوقت الذي تتمتع فيه بعض البلدان ومواطنوها بفترات من الثروة والنجاح الاستثنائيين، لا تزال الفجوة بينها وبين أفقر البلدان كبيرة. وتسبب بعض أوجه عدم المساواة هذه ضرراً عميقاً لحياة الملايين من الأفراد”، كما يضيف محرر التقرير أخيم شتاينر مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مقدمة مؤشر التنمية البشرية. ووفقاً للتقرير فإن عدم المساواة بين الجنسين والنزاعات المسلحة هما السببان الرئيسان في تأكيد هذه الفوارق حتى اليوم.

وقد أصبحت الحروب والصراعات المسلحة تقريباً هي القاعدة في بعض أنحاء العالم، وأدت إلى تراجع بعض البلدان في ترتيب دليل التنمية البشرية. وهذا يوضح كيف تتم إعاقة الحياة اليومية والتطلعات المستقبلية للأشخاص المحاصرين في الصراع وقد يستغرق إصلاح الضرر الإجمالي سنوات وعقوداً في بعض الأحيان.

اندبندنت

مقالات ذات صلة