الأغنية التونسية تواصل صمودها أمام الأنماط الموسيقية الجديدة
تنظّم تونس الدورة الحادية والعشرين لمهرجان الأغنية التونسية من السابع إلى الحادي عشر من مارس الجاري، في خطوة ترى أوساط فنية أنها ستعيد إلى الأغنية المحلية مكانتها المعهودة في أذهان المستمعين من حيث جودة الكلمات والألحان، بعد أن فقدت بريقها في العشرية الماضية بسبب موجة من التيارات الموسيقية الجديدة.
ويستأنف مهرجان الأغنية التونسية نشاطه بعد أن توقّف في السنة الماضية، وكان قد عاد قبل ذلك إلى الانتظام سنة 2021 إثر توقّف لفترة ناهزت 12 سنة. وأفاد رئيس لجنة تنظيم المهرجان محمد الهادي الجويني بأن “الهيئة المديرة لهذه الدورة حرصت على أن يكون للمهرجان بعد عربي حتى تنال الأغنية التونسية مكانتها العربية الحقيقية”، لافتا إلى أن “إدارة المهرجان أعدّت ندوة فكرية متّصلة بصناعة الأغنية التونسية وترويجها على الصعيد العربي”.
وأوضح الجويني أن إدارة المهرجان تلقّت 124 عملا، اختارت منها لجنة الانتقاء 24 عملا، منها 14 للمشاركة في مسابقة الأغنية الوترية و10 أعمال ستتنافس ضمن مسابقة “الأنماط الجديدة”. وذكر أن “السهرات سيؤثثها عدد من أشهر الفنانين رفقة المشاركين في المسابقة، وهي بادرة تهدف إلى تناقل مشعل الأغنية التونسية وتواصل الأجيال”.
وتألفت لجنة الانتقاء المكلفة باختيار الأعمال الواردة على إدارة المهرجان من المطربة رحاب الصغير والشاعر الحبيب الأسود والملحن ربيع الزموري والموسيقي هشام البدراني والموزعيْن الموسيقيين عبدالباسط بالقايد وسامي بن سعيد.
ويتطلّع المتابعون إلى أن تكون الدورة الحالية محطّة لاسترجاع مجد الأغنية التونسية بعد سنوات من “الضياع”، خصوصا بعد أن غزت المشهد الإعلامي والفني موجة من الأغاني والأنماط الموسيقية الجديدة التي تفتقر إلى الكلمة الهادفة واللحن المميز، فضلا عن الصورة الشعرية الرائعة واللحن الشجيّ والأداء المقبول.
ويرى هؤلاء أن الانفتاح الإعلامي والثقافي بعد ثورة يناير 2011 لم يعمل على دعم الأغنية المحليّة وتطويرها، بل ساهم في تراجعها، مقابل بروز أنماط موسيقية جديدة مثل أغاني الراب والأغاني المشرقية التي تستقطب فئات واسعة خاصّة من الشباب.
وقالت المطربة التونسية ناجحة جمال “الصيغة القديمة لمهرجان الأغنية كانت جيّدة، وكنت قد شاركت في دورات 1999 و2011، وكان كل مهرجان بمثابة عرس ومكسب وطني، لكن في العشرية الأخيرة تراجعت مكانة الأغنية التونسية ولا يوجد من يدافع عنها”. وأكّدت في تصريح لـ”العرب” أن “الأجيال الجديدة تمت تربيتها على أنماط موسيقية حديثة، ويمكن أن ننفتح على ثقافات أخرى لكن وجب الحفاظ في نفس الوقت على أصولنا الموسيقية مثلما فعلت الجزائر والمغرب”.
وأشارت ناجحة جمال إلى أن “وسائل الإعلام ساهمت أيضا في بروز أنماط موسيقية جديدة على حساب الأغنية التونسية، وهذا ما يستدعي إعادة النظر ثقافيا والقيام بمراجعات جذرية لواقع الأغنية”.
وترشح نحو 102 من الأعمال الغنائية للمشاركة في مسابقة الأغنية التونسية تمّ فرزها واختيار 14 أغنية منها، وهي “هسّس عليّ” كلمات وألحان وتوزيع قيس الزائري وأداء عزالدين خلفة، و”تعبت” كلمات يسر الحمزاوي وألحان غانم البوسليمي وتوزيع مروان الزائدي وغناء أمير الخماسي، و”ما ننساش” كلمات وألحان عبدالرحمن القريشي وتوزيع أسامة المهيدي وغناء حمزة الفضلاوي، و”نغني” كلمات سيرين الشكيلي وألحان وتوزيع محمد علي كمون وغناء مريم العثماني وأسامة النابلي.
وتشمل القائمة أيضا أغنية “نادت عليّ باسمي” كلمات وألحان الحبيب المحنوش وتوزيع منير الغضاب وغناء حاتم نورالدين، و”محتاجة ليك” كلمات بشير اللقاني وألحان وتوزيع محسن الماطري وغناء نهلة الشعباني، و”دنيا الحب” كلمات بشير اللقاني وألحان حافظ العبيدي وغناء خامس الذوادي، و”منايا” كلمات بشير اللقاني وألحان نجيب المسلماني وتوزيع منير الغضاب وغناء منير المهدي، و”ظنيت نسيت” كلمات المولدي حسين وألحان خالد سلامة وتوزيع محمد الرواتبي وغناء رؤوف عبدالمجيد، و”توحشتك برشة” كلمات صادق شرف وألحان الحبيب المحنوش وغناء ردينة بن حسن، و”زعمة هي” كلمات حاتم القيزاني وألحان محمد علي بالشيخ وتوزيع عماد قنطارة وأداء محمد العايدي.
وتشمل لائحة الأغاني المبرمجة لسباق الأغنية التونسية أيضا أغنية “سلامي خذيه” كلمات مختار العلوي وألحان أنيس المليتي وتوزيع رواد رحومة وأداء سارة بن شيخة، و”أعاتبك” كلمات مصطفى بهية وألحان نجيب المسلماني وتوزيع رياض الصمعي وأداء أميرة عامر، و”غناية لبابا” كلمات صلاح الدين بوزيان وألحان لطفي بوشناق وغناء مهدي العياشي.
وأفاد الفنان عزالدين خلفة بأن “الأغنية التونسية ستعود إلى الإشعاع بعودة المهرجان بعد 12 سنة من التوقف، وخصوصا عندما كانت هناك أسماء فنية كبيرة في الساحة على غرار صابر الرباعي ولطفي بوشناق والراحلة ذكرى محمد في سنوات سابقة”. وأضاف لـ”العرب” أن “الأغنية التونسية مازالت تملك جمهورا، والعودة إلى نشاط المهرجان هي بالأساس إحياء للأغنية والتفرّد بالألحان الرائعة”. واستطرد خلفة قائلا “الأغنية الجميلة لا تموت وبقية الأنماط الموسيقية الحديثة مجرّد موجات عابرة”.
وتقول أوساط فنية إنه على الرغم من ظهور مادة فنية جديدة وارتداد ثقافي جاء بجمل موسيقية غير مألوفة من قبل، فإن الأغنية التونسية تملك جمهورا خاصا ينتصر للذوق الرفيع ويتفاعل مع الجماليات من كلمات وألحان وأداء وحضور.
وقال قيس الزائري، الشاعر والملحن والموزّع، “لا يمكن للعولمة أن تعتدي على ذوق الشعوب، والفنون هي أكبر معيار يصنع الذوق العام، والجيّد دائما يفرض نفسه”، لافتا إلى أن “الإنسان يتفاعل مع الجماليات ولا نلوم المستهلك بقدر ما نلوم صنّاع المادة الموسيقية”. وأوضح لـ”العرب” أن “الأغنية التونسية ضاربة في القدم والموقع الجغرافي لتونس يجعلها منفتحة على بقية التيّارات الموسيقية، لكن في العشرية الماضية ظهر ارتداد ثقافي سادت فيه جمل موسيقية جديدة ساهمت في نشرها الأذرع الإعلامية الخالصة من وراء البحار”.
وتابع الزائري “الواقع التكنولوجي والافتراضي يفرض نفسه على الواقع المعيشي، لأنه يمتلك آليات أقوى وأشدّ تأثيرا في المتلقّي، وهذا ما يقتضي وجود قرار سيادي لإنتاج الموسيقى الجميلة، فضلا عن فرض الجماليات في التعليم العمومي واختيار الأمثلة الفنية والشعرية وتدريس الموسيقى كمادّة أساسية”.
وأردف الزائري “على وزارة الشؤون الثقافية ومن ورائها الدولة الاهتمام بالأغنية التونسية الجيّدة في مضامينها وكلماتها وألحانها، علاوة على انكباب صنّاع الفنون على مشاريع فنية جديدة”.
بدوره، اعتبر الشاعر الغنائي حاتم القيزاني أن “الأغنية التونسية لم تكن مؤهلة لقبول هذه المتغيرات، فغابت شركات الإنتاج فضلا عن التغييب الإعلامي الكبير للموسيقى التونسية لأسباب تجارية بالأساس”. وأكّد في تصريحات لـ”العرب” أنه “على مستوى إبداعي، هناك مخزون موسيقي وثقافي كبير، لكن بعض الشعراء انسحبوا في صمت لأن نسق الإنتاج تراجع وواجهنا عدّة صعوبات”.
وأشار القيزاني إلى أن “تونس دائما منجبة للأصوات والعازفين الموسيقيين، رغم تسونامي الأغاني المعروضة في الفضائيات”. وبعد ثورة يناير 2011 اكتسحت أغاني الراب المشهد الإعلامي والفني في تونس، وتبوّأ ذلك النوع الموسيقي مرتبة متقدمة في اختيارات التونسيين، وحسب إحصائيات المشاهدات تتابع الفئات الشبابية باهتمام هذه النوعية الموسيقية وأعمال الفنانين على مختلف شبكات التواصل الاجتماعي.
وتصل أرقام المشاهدات على قنوات فناني الراب التونسيين في يوتيوب إلى مئات الملايين، بينما لا تتجاوز لدى غيرهم من الفنانين التونسيين مئات الآلاف، ما يبرز فوارق واضحة في تغيّر الأنماط الموسيقية والفنية التي أصبحت تستهدف الشباب.
وقال الشاعر الغنائي جليدي العويني “ربما تغيرت ذائقة المستمع بحكم اطلاعه واستماعه لأنماط وافدة وولع جيل جديد من الموسيقيين باستعمال التقنيات والمؤثرات، لكن المستمع العربي عموما يبقى مرتبطا بالنص ولذا ازدهر الراب وانتشر أغنية ونصا، واستطاع قائلو ذلك النص الاتجاه مباشرة إلى مشاغل المستمع والتواطؤ معه في محافظته وفي البحث عن حلول غيبيّة لمشاكله”.
وأضاف لـ”العرب” أن “الأغنية التونسية الوترية المتقنة بشكلها التقليدي قادرة على مواصلة مسيرتها، فهي أغنية متقنة تتطلب عازفا مميزا ولكنها تشترط شاعرا قادرا على الاستجابة لتطلعات الناس وموسيقى تمس ذاكرتهم وتفتح خيالهم وتستجيب لما ينتظرونه من متعة في الغناء”.
ودعت إدارة مهرجان الأغنية التونسية مجموعة من الفنانين التونسيين والعرب إلى حضور المهرجان، وهم صابر الرباعي ومحمد الجبالي ويسرى محنوش وصفا سعد وغازي العيادي وملكة الشارني ونوال غشام وآية دغنوج وآمنة دمق وألفة بن رمضان وهاني شاكر ونيكولا سعادة ومحمد الحلو وسعد رمضان وإيهاب توفيق وشاب جيلاني وخالد الزواوي.
وستعرف بقية سهرات المهرجان تكريم مجموعات من القامات الموسيقية الراحلة ممن تركوا بصمات مميزة في الساحة الموسيقية التونسية والعربية، وهم محمد الجموسي ونعمة والهادي الجويني وعُليّة وعلي الرياحي وصليحة.
وسيتمّ خلال السهرات المخصّصة لمسابقة الأغنية الوترية تكريم العازف جلول الجلاصي والشاعر علي الورتاني والملحن عبدالكريم صحابو وكل من الفنانين عائشة وجمال الشابي والشريف علوي والملحن محمد عبيد، وكذلك العازفين عبدالمجيد بن عبدالله ومحمد سفيان ثامري وسيف الله بن عبدالرزاق وعبدالباسط المتسهل وشكري بهلول.
وقالت المديرة العامة للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية هند مقراني إن “المؤسسة تدعم هيئة مهرجان الأغنية التونسية في تنفيذ رؤيتها القائمة على التجديد في شكل المهرجان ومضمونه”. وأضافت أن المشاركة في مهرجان الأغنية هي تتويج في حدّ ذاته للمتسابقين. كما أشارت إلى أن قاعة الأوبرا ستلبس حلة جديدة بالمناسبة وسيكتشفها الجمهور بلمسات سينوغرافية متميزة.
وتأسس مهرجان الأغنية التونسية في العام 1986، وكانت دوراته الأولى شاهدة على تنوع مسارات الإنتاج الغنائي والموسيقي، وفتح ذراعيه لأبرز الأصوات في تونس مثل لطفي بوشناق وأمينة فاخت وصوفية صادق وصابر الرباعي وعدنان الشواشي وصلاح مصباح والشاذلي الحاجي وغيرهم.
وتم تحويله في 2010 إلى أيام قرطاج الموسيقية، لكن لوحظ أن هوية مهرجان الأغنية قد تعرضت للمسخ بسبب سيطرة المدارس الموسيقية الشبابية الوافدة والتغييب التام للخصوصيات المحلية التي ارتبطت باللون الغنائي لعمالقة الطرب التونسي كصليحة وعلي الرياحي والهادي الجويني ومحمد الجموسي ونعمة وعلية وغيرهم.
خالد هدوي