صبيانيّة فاقعة في الملف الرئاسي: هل مبادرة برّي… فرصة للإنقاذ؟
لا يمكن فهم السلوك التعطيلي للملف الرئاسي، إلّا بكونه تعبيراً عن صبيانيّة فاقعة باتت تقليدية في السياسة اللبنانية، وتعزّز الشكوك في إمكان تحرّر رئاسة الجمهورية من نزواتها، التي يبدو انّها مجتمعة على هدف وحيد، هو تدمير أي فرصة للانقاذ.
تلك الصبيانيّة، على ما يشهد كلّ اللبنانيين، باتت ماركة مسجلة لمكونات الانقسام الداخلي، كجائحة فالتة من عقالها، بلا كوابح تردعها، وكحالة مرضيّة مستعصية على أيّ علاجات او مضادات حيوية تحتوي عوارضها العابثة في الجسم اللبناني، او أي فيتامينات أخلاقية وإنسانية تشحن العقل بما يؤهّلها لبلوغ سن الرشد السياسي والوطني.
مع بدايات الازمة الاقتصادية والمالية كان شعارها «إكذب إكذب حتى يصدقك الناس»، اعتاشت عليه فوق أوجاع الناس سياسيا وشعبويا، وأخذتهم الى عوالم وهمية ليس فيها للصدق مطرح. ومع الازمة الرئاسية صار شعارها «عطّل عطّل حتى ينقطع النفس»، والشهر يجرّ الشهر، والحبل على جرار التعطيل، ورئاسة الجمهورية مرمية في مغارة النكد، بابها صار يحتاج بالحدّ الأدنى الى الاستنجاد بتلك الرواية الخيالية والاستعانة بعلي بابا لفتحه، او الاستلقاء على رصيف الانتظار ريثما تحلّ معجزة تنتج نسخة لبنانية لتلك الشخصية الخيالية!
الحديث عن معجزة ليس مبالغاً فيه، بل هو أكثر من طبيعي في واقعٍ لبناني محكوم بمستحيلات والولاء لأجندات، وبخطوط سياسية متوازية لا تلتقي الّا على حلبات المواجهة والاشتباك والمناطحة والسجال والكسب المتعدّد الأوجه السياسية وغير السياسية، وامّا البلد النازف وشعبه البائس، فـ«حدّن جهنّم». ولتبقَ رئاسة الجمهورية في الأسر إلى ان يقضي الله امراً كان مفعولا.
الخارج نصح وتمنّى وترجّى وتوسّل وحذّر ونبّه وخَوّف ووعد وتوعّد ورغّب واستعجل اعادة تكوين السلطة في لبنان بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية، لكنّ الداخل آذان طرشاء، لا تسمع سوى ما يدغدغ حساباتها وحزبياتها ورهاناتها ونرجسياتها، وأفواه ناطقة بالكفر السياسي وبكلّ ما يلوّث الأرجاء اللبنانية بالحقد والشّحن والتحريض السياسي والطائفي والمذهبي. ولم يعد سرّاً انّ مجالس الديبلوماسيين صارت في مجملها حلبات لتقريع وتوبيخ هذه النوعية من السياسيين!
حتى الآن، البلد غارق في هاوية بالمعنى الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وبات قاب قوسين او ادنى من أن يلج باب الفوضى الشاملة، وليس ما يضمن ابداً سقوطه في هاوية بالمعنى الأمني، فمع هذا الوضع الفالت كل شيء وارد.
تلك الهاوية بكل أشكالها استشرفها الرئيس نبيه بري منذ ما قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، واطلق صرخات متتالية في الوادي السياسي للصعود في مركب النجاة وقال لبنان وضعه بالويل، فتعالوا لنربح البلد، ونتفاهم ونتوافق وننتخب رئيس الجمهورية، ونصنع الانقاذ بأيدينا وليكن الـ128 نائباً واحداً من أجل لبنان ولمصلحة لبنان… ولكن لا حياة لمن تنادي، وبقيت رئاسة الجمهورية غارقة في مستنقع الحقد والنكد والـ«أنا» السّادّة لكلّ معابر الانفراج.
مع بداية الازمة قال بري ان وضع البلد لا يحتمل اسابيع، لكنّ منطق التعطيل لم يغادر غربته عن الواقع المنهار، ومع كل يوم كانت تتعمق الهاوية اكثر، وتدحرجت الوقائع الجهنّمية الى حدود بات فيها مصير البلد على المحك. الصورة واضحة امام بري بأنّ هذا المسار سيؤدي حتماً الى كارثة كبرى، ما لم يتمّ تصويبه وتوجيهه في الإتجاه المعاكس للكارثة، ويؤدي بسفينة البلد إلى بر الأمان، انطلاقاً من الخطوة الاساس المتمثّلة بانتخاب رئيس للجمهورية.
ومن هنا جاءت مبادرته قبل أيام قليلة إعلان تأييد الوزير سليمان فرنجية كمرشّح طبيعي مكتمل المواصفات التي تؤهله لرئاسة الجمهورية، ليس من باب التحدي لأيّ طرف بل من باب تحريك المياه الرئاسيّة الراكدة، والتأكيد على التعاطي الأكثر من جدّي مع الملف الرئاسي. وبالتالي، الانتقال من مرحلة الترشيحات الفولكلورية والإعلامية وأوراق بيضاء مقابل ميشال معوض التي استهلكت على مدى 11 مسرحية انتخابية فاشلة، الى مرحلة الترشيحات الجدية، بما يقود الى التنافس الديموقراطي الصحّي بين المرشحين بأسماء حقيقية (اثنان او ثلاثة او اكثر) على الحلبة الرئاسية، ومن يربح يبارك له الجميع.
ممّا لا شك فيه أن مبادرة بري بتأييد فرنجية، التي لاقاه فيها الامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله وسائر الحلفاء، كسرت الحلقة المفرغة، ونقلت المشهد الرئاسي الى مرحلة جديدة وفرضت مقاربات جديدة له على مستويات مختلفة، خصوصاً أنها وفّرت فرصة لإخراج رئاسة الجمهورية من قمقم التعطيل وصولاً الى رئيس صُنع في لبنان، وارتكزت على رسالة مباشرة شديدة الصراحة والوضوح الى كل اطراف الداخل مفادها انه لم يعد جائزاً أبداً ان نبقى مرتهنين لحالة الاستعصاء القائمة، لا سيما انّ عامل الوقت بات قاتلاً، ومَخاطره ليست على الانتخابات الرئاسية وموقع الرئاسة الأولى فحسب بل على لبنان ومصيره بشكل عام.
ولعلّ أهم ما في مبادرة بري أنه يخاطب من خلالها الخارج، (وبعض البعثات الديبلوماسية تلقّفتها بجدية) بتأكيده على أنّ الخارج، أيّاً كان هذا الخارج، لا يستطيع ان يُقارب ملف الرئاسة في لبنان بفرض أسماء او إشهار «فيتوات» على هذا الاسم او ذاك. وكذلك تأكيده على انّ الخارج، وانطلاقاً من إعلانه عبر كل مستوياته الصديقة، حرصه على لبنان واخراجه من أزمته، ينبغي أن يكون تصالحيا ووسطيا دوره الاساس تقريب وجهات النظر والمساعدة بما يملك من صداقات سياسية وما له من حلفاء في لبنان، على التئام مجلس النواب وبالتالي ركون الاطراف اللبنانيين الى عملية انتخابية تنافسية ضمن الأطر الدستورية. فالخارج، يدرك انّ بري هو اللاعب الاول الاكثر خبرة وحنكة ودراية في كيفية اخراج الازمة الرئاسية من عنق الزجاجة، والديبلوماسيون الذين يتقاطرون الى عين التينة، مسلّمون بهذه الحقيقة، وسمعوا منه وجهة نظره التي تبدأ وتنتهي عند ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية امس قبل اليوم، وتعطيلها جريمة ترتكب بحق لبنان.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل ستجد مبادرة بري مَن يتلقفها؟
من البديهي أن يامل بري أن تفتح مبادرته آفاق الالتحاق الإيجابي بها، إلى أوسع من دائرة الحلفاء الطبيعيين، فتعجّل بالترشيحات من سائر الأطراف، وتفتح باب التنافس الرئاسي، ما سيحمله على الدعوة فوراً إلى جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية، الّا أنّ الصورة في المقلب الآخر ما زالت حتى الآن تدور في فلك آخر، ومواقف من يسمّون أنفسهم سياديين او تغييريين ومن يحالفهم من مستقلين، تسقط الرهان على طرح ترشيحات، او على أي فرصة لتلاقٍ وطني حول رئاسة الجمهورية.
ثمّة من يقول انّ سمير جعجع رَسّم، من خلال العجز عن توحيد المعارضة حول مرشح سيادي، حدودَ تعاطيه مع الملف الرئاسي، بحيث انتقل الى المقاربة التعطيلية التي كان يعيبها على الآخرين، والتي حسم من خلالها موقعه بأنه لن يكون طرفاً في لعبة تأمين النّصاب – الّا اذا طرأ ظرف ما أو طارىء ما يوجِب مقاربة مختلفة – أمّا في ما خَصّ موقف التيار الوطني الحر، فعلى الرغم من الموقف المتشدد الذي يُبديه جبران باسيل تجاه فرنجية وعبّر عنه قولاً وفعلاً، في محطات ومناسبات مختلفة ومتعددة فإنّ التعويل على تبدّل في موقف باسيل، أمر صعب جداً، ولكن في السياسة لا توجد محرّمات، كما لا انسداد كاملاً ونهائياً لجلسات النقاش والحوار. وبالتالي، يبقى الرهان الاساس على عاملين: الأول هو عامل الزمن، لأنّ الزمن كفيل بتغيير المعطيات والحسابات. أمّا العامل الثاني فهو تقاطع المصالح.
على انّ عامل الزمن، على حد ما يقول اصحاب هذا الرأي، ليس مفتوحاً الى ما شاء الله، فحدوده لا تتجاوز بضعة اسابيع، ويتقاطَع ذلك مع ما تؤكّده مستويات سياسيّة معنية مباشرة بالملف الرئاسي في مجالسها لناحية أنّ الأفق الرئاسي في قمة الإستعصاء، وانّ عينها على الأشهر الثلاثة المقبلة التي قد تكون حُبلى بالتطورات المحلية والاقليمية والدولية، التي قد يتحدّد في ضوئها مسار الأمور في لبنان امّا في اتجاه التبريد والانتخاب وامّا في اتجاه التصعيد والمزيد من التعقيدات. ولننتظر ونرَ.
نبيل هيثم- الجمهورية