تقلّبات الدور : السُّنّة مهدّدون كعرب 48.. فهل من حريري آخر؟
من الخطأ الظنّ أنّ الأزمة التي يعيشها لبنان تمثّل انهياراً سياسياً واقتصادياً عاديّاً يمكن تجاوزه بناء على تسوية مرحلية أو جزئية. ويتمثّل الخطأ الأكبر في إسقاط أزمات مماثلة في دول أخرى ووضعها في قالب لبناني مماثل. فللدول أدوار، ولا بدّ للبنان من إعادة البحث عن دوره.
تقلّبات الدور
كان دور لبنان رائداً طوال العقود الماضية، منذ النكبة الفلسطينية حتّى عام 2005:
– ما بعد النكبة كان مساحة استقطاب مالي لفورة البترودولار، وثقافي لفورة الأيديولوجيات المرتبطة بالمال العربي المتنوّع المصادر، ومعبراً لترانزيت التجارة والتصدير.
– في نهاية الستّينيات تحوّل ساحة صراع سياسي – عسكري أدّى في نهاية المطاف إلى حرب أهلية (1975 – 1990).
– افتتحت نهاية تلك الحرب حقبة إقليمية – دولية جديدة كان عنوانها “الأرض مقابل السلام”، فاستفاد لبنان من ذلك الظرف واستعاد ازدهاره السياسي والاقتصادي مع وعود السلام الموؤد.
– كان رفيق الحريري، بما يمثّله وطنيّاً ومن امتداد بفضل علاقاته العربية والدولية، رجل ذينك المرحلة والدور. وهدَف اغتيال الحريري إلى شطب ذاك الدور وإنهائه.
منذ عام 2005 خاض لبنان صراعاً وجوديّاً كبيراً حول الدور والهويّة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولا سيما لجهة وظيفة الاقتصاد وعلاقات لبنان الإقليمية والدولية، بعد خروجه من مرحلة الوصاية السورية.
أدّى ذلك إلى انقسام عموديّ في المجتمع وبين الجماعات اللبنانية، لم ينتهِ إلا بتسوية انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية سنة 2016، فدخلت البلاد في مسار الانهيار المشهود والمعيوش اليوم.
من الشارع إلى المؤسّسات
بين عامَي 2005 و2016 مرّ لبنان بمراحل انتقالية على وقع تسويات مرحلية، فلم تُحدَّد وجهته السياسية أو الاقتصادية، وبقي في حال من التعطيل المستمرّ، على الرغم من إنتاج حلول موضعية وجزئية، من قبيل انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومات. فانتقلت المعارك السياسية من الشارع إلى داخل المؤسّسات، في محاولات لمنع الانفجار في الشارع. وحدث ذلك بناء على سيناريو غرائبي:
– استقالت السلطة السياسية من أدوارها الأساسية، وعهدت إلى مؤسّستين أساسيّتين (المصرف المركزي والجيش) تسيير الأمور تسييراً يومياً.
– عمل مصرف لبنان على دفع تكاليف بقاء البلد واقفاً على قدميه في ظلّ الصراعات السياسية العبثية. كانت كلفتها كبيرة جدّاً: في عام 2005 كان موقف السلطة السياسية واضحاً في عدم اهتمامها بالحياة الاقتصادية، وانشغالها بالصراع السياسي والإقليمي. ووصلت البلاد إلى الانهيار وتعرية مصرف لبنان.
– تخلّت السلطة السياسية عن العمل على معالجة الوضع الأمني، فسلّمته إلى الجيش اللبناني، فيما كان الوضع يحتاج إلى معالجة سياسية.
كارثة عون – حزب الله
في عهد ميشال عون تفشّى الصراع في القطاعات والمؤسّسات كلّها، فأودى بالبلاد إلى الانهيار المالي. على وقعه نمت صراعات أخرى كان آخرها تهشيم القضاء وسقوطه المشهود في ظلّ الصراع على طاولة مجلس القضاء الأعلى، مع تعطيل مجلسَي النواب والوزراء والمصارف، وتراجع التعليم والمستشفى…
لم يبقَ سوى مؤسّسة واحدة متماسكة: الجيش اللبناني. واليوم بدأ يظهر الهجوم المركّز على الجيش، كآخر مؤسّسة قائمة. وهذا الهجوم مثلّث الأهداف:
– حسابات سياسية طائفية ضيّقة على الصعيد الماروني، ضمن سياسة الأرض المحروقة التي يعتمدها جبران باسيل: يكون هو زعيم الموارنة أو لا يكون أحد غيره. وبالتالي هل يكون هو الماروني الأخير؟
– الهدف الثاني يرتبط بالدعم الأميركي المتواصل للجيش. وهذا يجعله على تناقض مع المحور الذي يمثّله حزب الله.
– الهدف الثالث تتصدّره القوى التي تريد الفوضى في لبنان، وترى أنّها تناسبها وتصبّ في مصلحتها: انفراط البلد وإعادة تركيبه مجدّداً. وهنا يبرز سؤال: هل مَن يريد فرض الفوضى في لبنان لإعادة طرح سلاح حزب الله ومصيره على الطاولة؟
لا يمكن أن ينهار النظام المالي في بلاد تعيش مؤسّساتها كلّها، ومن ضمنها العسكرية والأمنية، هذا النوع من التجاذب والصراع، وتبقى هذه البلاد قادرة على حفظ وجودها بدون إحداث تغيير بنيوي وجذري فيها.
دور السُّنّة المنتظر
يستمرّ الصراع، لكنّه بدأ يتّخذ طابعاً واضحاً:
– هناك صراع مسيحي – مسيحي يقوده التيار العوني ضدّ كلّ المواقع المارونية الأساسية والمؤسّسات المعتبَرة من مرتكزات النظام.
– هناك صراع آخر بدأ يتّخذ طابعاً مسيحياً – شيعياً في ظلّ توتّر العلاقة بين التيار العوني وحزب الله.
وعليه، تتمثّل المشكلة الكبرى في ترك مثل هذا الصراع يتنامى حتى يصل إلى الانفجار. يسهم في ذلك:
– غياب المكوّن السنّيّ الوطني عن لعب الدور التاريخي المناط به والذي يتعلّق بالحفاظ على هيكلية الدولة وبنيتها الوطنية وأداء دور التوازن في موقع رئاسة الحكومة وامتداداتها.
– تشنّج مسيحي ودعوات إلى الانفصال أو الفدرالية.
– قدرة الثنائي الشيعي على بسط سيطرته على مناطقه بشكل واسع ومحكم.
ترْك الصراع يستمرّ بهذا الشكل يفضي بالمسيحيين إلى خيارات أكثر انعزالية، في مقابل إحكام الثنائي الشيعي قبضته على مناطقه. وهذا يشكّل عنصراً أساسياً في تغيير بنية لبنان التكوينية.
هناك مثال لما يعيشه لبنان اليوم: خلال الحرب الأهلية بعد سيطرة الميليشيات على بيروت، ومغادرة الرئيس صائب سلام لبنان، وتحطيم تنظيم “المرابطون”، واغتيال رجالات السُّنّة، وتحديداً الرئيس رشيد كرامي والمفتي حسن خالد، عاش لبنان في ظلّ سيطرة قوى الانقسام الطائفي وصراعاتها المسلّحة فيما بينها وفي داخل كلّ طائفة، وسط غياب كامل لأيّ مقوّمات سياسية قادرة على لجم ذاك الجنون الجهنّمي.
اليوم يكرّر المشهد نفسه من دون سلاح والسُّنّة غائبون عن أداء دورهم في التأسيس لمشروع وطني، انطلاقاً من العمل بمفهوم الجماعة لا الأفراد.
لم ينتهِ جنون الحرب الأهلية إلى بلورة دور واضح للسنّيّة الوطنية على صعيد المنطقة. وكان رفيق الحريري قد بلور ذاك الدور. اليوم هناك حاجة إلى رفيق حريري آخر وليس من ورثته كي لا يتحوّل واقع السُّنّة في ظلّ هذا الصراع إلى ما يشبه واقع عرب 48 في فلسطين.
خالد البواب- اساس