«الزلازل السياسية» تضرب القضاء في «بلاد الأرز»: عون… جريئة أم موتورة؟
يعيشُ لبنان حالةً من العبثية المطلقة. ينامُ على أزمة ويستفيقُ على أخرى. أزمة تحرف الأنظار عما سبقها. ما عاد بالإمكان فهم ما يجري. أضحت البلاد كـ»حارة كل مين إيدو إلو». والناس عاجزة ويائسة وكأنها مخدَّرة، وفي حالة من التنويم العام، لا شيء يُحرِّكها من أحداث ما دامت أقل من زلازل طبيعية، كزلزال تركيا وسوريا وما أحدثه من هزَّات أرضية ضربت لبنان وأدخلت بعضاً من الخوف والقلق في نفوس أبنائه.
فالهزَّات السياسية، والاقتصادية، والمعيشية، وحتى القضائية، باتت جزءاً من يوميات اللبنانيين، وغابت عنها عوامل الإثارة والتشويق، لأن لا أحد يعرف لماذا بدأت وكيف انتهت! تعيشُ البلاد على وقع قضايا «غب الطلب» وحين تنتهي وظيفتها أو تصل رسالتها تُسدل الستارة عليها. كما يحصل في نهاية أي عرض مسرحي، على أن يليه في اليوم التالي عرضٌ جديد لمسرحية من نوع آخر، أو إعادة لمسرحية سابقة… وهكذا دواليك.
اليوم يُتابع اللبنانيون العروض المتتالية على خشبة مسرح القضاء اللبناني. هذا القضاء الذي يُفترض أن يكون مقصداً لكل مظلوم من أجل تحقيق العدالة التي من دونها سيعمُّ الاستبداد والقهر، وتنتفي كل مظاهر القانون، والمساواة، والحرية. أصبح اللبنانيون على مشارف انهيار آخر معقل من معاقل وجود الدولة، أو إمكان الرهان على قيامة الدولة من جديد في بلاد الأرز. تهوي السلطة الثالثة والتي هي، وفق الدستور اللبناني، السلطة القضائية في غياهب المناكفات السياسية الراكنة على فالق الانقسامات الطائفية، التي لا يهاب بعض قادته استغلالها خدمة لمصالحهم الفئوية أو خدمة لمشاريع إقليمية.
جريمة العصر…
وموسمية القضية!
فانفجار المرفأ، الذي ذهب ضحيته ما لا يقل عن 200 بريء و7 آلاف جريح، ودمَّر قلب العاصمة وروحها، يبدو التعاطي معه وكأنه قضية موسمية أو «غب الطلب» تطفو حيناً وتخبو حيناً آخر، فيما هي جريمة العصر لا يمكن أن تمر من دون محاسبة ومن دون عقاب. في 13 كانون الثاني/يناير الماضي، أوقف جهاز أمن الدولة، بناء على إشارة قاضٍ، الناشط وليام نون شقيق أحد ضحايا الدفاع المدني الذين قضوا في انفجار 4 آب/أغسطس 2020. تمَّ توقيف نون على خلفية تهديد كلامي بتفجير مبنى قصر العدل تعبيراً عن رفض أهالي الضحايا تعيين قاضٍ رديف للمحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق البيطار، والمتوقف عن العمل بفعل دعاوى الارتياب المشروع المقدّمة من وزراء مدَّعى عليهم. قامت الدنيا ولم تقعد. فتحت قنوات تلفزيونية الهواء مباشرة لمتابعة هذه القضية التي كادت أن تحرق البلد في ظل انقسام سياسي – طائفي، واستدعتْ في نهاية الأمر تحرُّك البطريرك الماروني والتهديد من قبله لأصحاب الشأن بعواقب لا تُحمد عقباها. فكان أن أُطلق سراح نون. أُسدلتِ الستارةُ على الحدث. استراحتْ كاميرات الإعلام وتوقفتِ المتابعةُ لمعرفة ما الذي حصل فعلاً؟ وكيف انتهت المسألة؟ وهل كان وراء طلب توقيف نون قرار سياسي لجهة معينة؟
بعد أيام، انشغلتِ البلادُ بخبر قدوم وفد قضائي أوروبي في إطار تحقيقات تطال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بتهم مالية تتضمن تبييض أموال. خبر أفرح جزءاً من اللبنانيين الذين يضعون المسؤولية على مصرف لبنان والمصارف في احتجاز الودائع في البنوك اللبنانية بعد «ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019». ما كان للمرء أن يتصوَّر أنه في لبنان، الذي عُرف بأنه «سويسرا الشرق» نظراً إلى نظامه المصرفي المتين، يُمكن أن يتم احتجاز أموال المُودِعين وأن يعيشوا حياة ذلّ ومهانة، من دون أن يُقدِّم أحد من المسؤولين السياسيين أو القيّمين على المصارف أجوبة عن مصير أموالهم المحتجزة، في وقت أقدم متنفذون على تهريب أموالهم إلى الخارج.
سُرَّت شريحة سياسية، وهي «التيار العوني» أكثر من غيرها بمجيء القضاة الأوروبيين. عينها كانت على هذا الموقع ولا تزال، وإن بات من الصعب اليوم، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، أن تكون قادرة على الاستحواذ على مواقع الفئة الأولى في الإدارة العائدة للمسيحيين كما فعلت خلال التسوية الرئاسية التي أوصلت زعيم «التيار البرتقالي» إلى قصر بعبدا. ويعتبرُ «الوطني الحر» أن سلامة يحمي التركيبة السياسية المتجذرة، وسيؤول سقوطه إلى سقوطها. لكن حسابات اللبنانيين المصابين بذلِّ البنوك تختلف عن الحسابات السياسية. هؤلاء يريدون استرداد أموالهم أولاً ومن ثمَّ محاسبة كل السارقين والمتواطئين، مِن سياسيين ومصرفيين وبنوك وأصحاب نفوذ شكّلوا ويُشكّلون متضامين أركان الدولة العميقة. لا يمكن لعهد حكم 6 سنوات، وكان في عداد الحكومات لاعباً رئيسياً منذ 2011، أن يُعفي نفسه من المسؤولية فيما هو شريك مع الآخرين وكالآخرين، ومعني بدرجة كبيرة بخسائر الدولة في قطاع الكهرباء الذي استنفد لوحده من الميزانية 24 مليار دولار ونصف المليار منذ العام 2010 من دون أن ينعم لبنان بالكهرباء.
معرفة الحقيقة والنفوس المتألمة
التقى قضاة فرنسيون، ضمن الوفد القضائي الأوروبي، المحقق العدلي في جريمة المرفأ. مرَّت الأيام، فإذا بالمحقق البيطار يظهر على مسرح الأحداث من جديد ليُعلن عودته إلى متابعة القضية، مستعيناً بدراسة قانونية أعدَّها. لم تُفهم الأسباب الفعلية لعودة البيطار وعزاها البعض إلى ضغوط أو تحفيزات خارجية، لكنها أدَّت إلى نتائج لم تنتهِ تداعياتها ولن تنتهي في وقت قريب. حضر البيطار في 23 كانون الثاني/يناير إلى مكتبه وادعى على 8 أشخاص بينهم شخصيات أمنية وقضائية، ومنها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدعي العام التمييزي غسان عويدات. أَفرحَ ادّعاء البيطار جزءاً من اللبنانيين، وفي مقدمهم أهالي ضحايا المرفأ وأولئك التوَّاقين إلى معرفة الحقيقة في أبشع جريمة شهدها لبنان، إذ صُنِّف الانفجار الناجم عن تخزين نيترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفئه على أنه ثالث أكبر انفجار غير نووي؛ وأغضب هذا الادعاء جزءاً آخر، ومن بينهم قيادات «الثنائي الشيعي»، إذ طال كبير القيادات الأمنية الشيعية المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بعدما كانت ادعاءات سابقة طالت وزراء من كنفهم شغلوا حقائب وزارية في فترة الإتيان بباخرة نيترات الأمونيوم في العام 2013 وما بعدها. فـ«محور إيران» وحلفاؤه يتحسَّسون من التحقيق في جريمة المرفأ في ظل التقارير التي تربط بين النيترات والبراميل المتفجرة التي استخدمها النظام السوري ضد ثورة شعبه، وكان «حزب الله» شريكاً له. ظلال الشك والادعاء لا تقتصر على فئة أو طائفة محددة بل تطال كثيرين منتمين إلى طوائف عدة، بعضهم مُقصِّر، وبعضهم فاسد، وبعضهم متواطئ، وبعضهم متورِّط، وبعضهم قد يكون بريئاً. ما يطمح إليه اللبنانيون خارج التبعيات المتنوعة هي تحقيق العدالة التي من شأنها ان تريح النفوس المتألمة.
اهتزتِ الأرضُ. سريعاً ردَّ المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، الذي كان من بين المدعى عليهم، بالادعاء على البيطار بجرم انتحال صفة. ورغم أنه تنحى عن ملف المرفأ بدعوى وجود صلة قربى مع أحد الوزراء المتهمين بالملف، أطلق سراح كل الموقوفين وعددهم 17 في جريمة انفجار المرفأ في مشهد بدا غريباً. ضرب الجنون قصر العدل. قضاة يدَّعون على قضاة، انقسام في مجلس القضاء الأعلى الذي يُعدُّ أعلى سلطة قضائية، والمجلس التأديبي يتفرَّج على تجاوزات من هنا ومن هناك، والتفتيش القضائي لا يعمل. وفي الأساس، كل العدل في لبنان كان معطلاً بفعل انهيار الوضع المالي. كان المشهد أقرب إلى «العصفورية» (تعبير لبناني يُستخدم في الدلالة على مستشفى المجانين). وكما العادة، صوَّبت الكاميرات على «العدلية» وضجَّت الأخبار بالبيطار وبالمُفرج عنهم، وما هي إلا أيام حتى أُسدلتِ الستارةُ على هذا الحدث. فما الذي حصل؟ وكيف انتهى الأمر؟!
عون… جريئة أم موتورة؟
وبين الفينة والأخرى، تطلُّ على المسرح قاضية، يصفها البعض بـ«الجريئة» والبعض الآخر بـ«الموتورة». إنها المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، التي ينقسم اللبنانيون حولها بين مُؤيِّد ومُعارض. في السياسة، تُحتسب على الفريق السياسي العوني، وتُعتبر إحدى أذرعه القضائية. تُسطِّر المذكرات فينفذها جهاز أمن الدولة الذي يُحسب رئيسه على «التيار» أيضاً. تذهب القاضية إلى ملاحقة سلامة تارة في منزله في جبل لبنان وتارة أخرى في البنك المركزي في بيروت، رغم أن بيروت خارج صلاحياتها المكانية. تتمرَّد على رؤسائها تارة، ويُقصِّر رؤساؤها في محاسبتها تارة أخرى. تقوم حيناً بغارة قضائية على شركة «مكتّف لشحن الأموال» علّها تحصل على لوائح اسمية بناقلي الأموال إلى خارج لبنان، وتستهدف حيناً آخر صديقة حاكم المركزي في معرض سياسة الضغط. تتحرَّك ضد مصارف بناء على إخبار من هنا وآخر من هناك. تدّعي على بعضها بتهمة تبييض الأموال. تردُّ المصارف بالإضراب. بالأمس القريب طغى خبر إشعال مجموعة من المعترضين أبواب مصرفين اثنين في منطقة بدارو في بيروت على ما عداه من أخبار. هُرعت الكاميرات قبل القوى الأمنية إلى هناك لتغطية الخبر الذي احتل أيضاً الشاشات العربية. في اليوم التالي، ما عادت مسألة حرق المصارف تتصدر الاهتمام، وكـأن الرسالة وصلت، فقُلبت الصفحة!
تمضي أيام قليلة قبل أن يبدأ عرض جديد. هذه المرة المشهد مكرَّر، عنوانه الادعاء على مصارف جديدة بتهمة تبييض الأموال من قبل القاضية ذاتها. ضاق ذرع مرجعيات مارونية سياسية ودينية ترى أن المستهدف من ألفه إلى يائه هو القطاع المصرفي الذي شكَّل درّة الشرق، فالبنوك اللبنانية كانت «بنك الشرق»، والمستشفيات في لبنان كانت «مستشفى الشرق»، والجامعات كانت «جامعات الشرق». تلك الريبة من الإجراءات المتلاحقة في حق المصارف دفعت إلى تحرُّك من خلف الستارة لوقف شَـبَق القاضية المذكورة، فكان إخراج بتدخل السلطة التنفيذية بالطلب إلى الضابطة العدلية بالتوقف عن تنفيذ المذكرات الصادرة عن القاضية عون. وهو تدخُّل يضرب دستورياً مبدأ الفصل بين السلطات، لكن بعض المراقبين يُطبِّق عليه قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» في ظل الشلل المخيف الذي يُصيب السلطة القضائية، والخلافات والاشتباكات التي تعكس في عمقها انقسامات سياسية واصطفافات طائفية جعلت القضاء كله يواجه مخاطر الانحلال، على غرار الانحلال الذي يُصيب السلطات الدستورية في البلاد حيث الرئاسة الأولى شاغرة، والقوى السياسية الداخلية عاجزة عن انتخاب رئيس للجمهورية، وعن القيام بخطوات إصلاحية كمقدمة لاتفاق مع صندوق النقد يسبق دعم الدول المانحة لخطة إنقاذ اقتصاد لبنان، وحيث المؤسسات على اختلافها تتآكل وتتهالك.
أضحت غالبية القضايا مُعلّقة مع الملفات الموسمية التي تندرج في خانة تصفية الحسابات وليّ الأذرع. الخطورة تكمن في أن «الزلازل السياسة» قد تكون أصابت القضاء مقتلاً، وضربت أعمدته، وتركت اللبنانيين من دون غطاء القانون وحرية التقاضي وحماية العدالة. جعلتهم مكشوفين لكل أنواع الاستبداد…
رلى موفق- القدس العربي