لور غريب الرسامة التي كتبت النقد بنزاهة: غيابها سيترك أثرا كبيرا!
رأيتها عام 1999 وجها لوجه، وقرأت لها قبل ذلك بعشرين سنة وتعلمت منها الكثير. الوضوح والجرأة وقول ما تراه حقيقيا من غير لبس ولا دوران.
شكلت الرسامة اللبنانية لور غريب (التي توفيت قبل أيام) مع نزيه خاطر تاريخا للنقد الفني في مجال التشكيل في لبنان. ثنائي تميز بالعمق والنزاهة والرؤية التي تستند إلى قوة معرفية تجمع بين المعلومة الدقيقة والفهم الرفيع لوظيفة الفن وتحولاته في عصرنا.
التنقل بين المواهب
شاعرة ورسامة وناقدة فن وصحافية. عاشت لور غريب وهي تتنقل بخفة بين مواهبها كما لو أنها تمارس الشيء نفسه ولم تتعب حتى آخر يوم من حياتها.
كانت كاتبة من طراز نادر. تقول ما تراه مناسبا في أقل عدد من الكلمات بلغة مشدودة لا فائض فيها كما لو أنها تكتب الشعر لكن بصيغة أخرى.
واكبت غريب الوقائع اليومية للفن التشكيلي في لبنان من خلال مقالاتها في صحيفة “النهار”، حيث عملت لأكثر من أربعين سنة. وكان لآرائها النقدية عميق الأثر في تصحيح المسارات كما أن مقالاتها كانت أشبه بالبوصلة التي يهتدي من خلالها متابعو الفن في سيرهم على خرائط الفن، وسط متاهته.
بالرغم من أنها قد عملت عبر سنوات عمرها في الصحافة غير أنها مارست الرسم بروح الاحتراف، بل أنها نالت الجوائز في ملتقيات فنية مهمة كما أنها أقامت العديد من المعارض الشخصية والمشتركة. لم تفعل ذلك من باب تحدي الرسامين الذين تكتب عن تجاربهم، بل لأنها كانت ومنذ طفولتها مسكونة بالرسم.
تقول “قبل الحرب كنا لا نعرف الألوان. في دير القمر كانت الكتب بالأسود والأبيض. وكنت أرسم وأنا في الصف. بعد الحرب صرت أرسم بالأكواريل. وعندما أصبحنا في بيروت بدأت عيناي تتفتح على ما لم نكن نعرفه أو نملكه”.
قاسية وصعبة في النقد الفني غير أنها لم تكن كذلك في الرسم. لقد كانت أشبه بالطفلة التي ترعى عرائسها بأغنيات الجنيات غير المرئيات. تمتلئ رسومها بأقنعة مستعارة من عصور قديمة. رسوم عفوية وتلقائية تنسجم مع تقنية الحبر التي كانت تيسّر لها إنتاج رسوم دقيقة ومليئة بالتفاصيل كالمنمنمات.
عاشت لور شبابها قريبة من رواد الشعر العربي الحديث حين عملت في بداية مسيرتها في مجلة “شعر” التي كان يُصدرها الشاعر يوسف الخال.
وإلى جانب الشعر والنقد الفني فقد كتبت غريب القصة القصيرة أيضا. كانت لور غريب فنانة شاملة لم تتخل في كل ما قامت به عن روح المرح والمتعة والمشاكسة.
عاشت زمنها بحيوية استثنائية وسيترك غيابها فراغا كبيرا لن يكون ملؤه بالأمر اليسير.
ولدت لور غريب في بلدة دير القمر (جبل لبنان) عام 1931. نالت من الجامعة اللبنانية شهادة في الفلسفة ثم انتقلت لدراسة الأدب الفرنسي. في تلك المرحلة درست الفن في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة وكانت في الوقت نفسه تكتب الشعر باللغة الفرنسية.
الشعر والرسم والنقد
في بداية مسيرتها تعرفت على الرسام سعيد أ. عقل الذي ساعدها على صقل موهبتها، الأمر الذي شجعها على ترك عملها في وزارة التربية والانتقال إلى العمل في الصحافة. عملت أولا في صحيفة “لوريان” التي كان الشاعر صلاح ستيتية يصدرها مترجمة للشعر العربي إلى الفرنسية، كانت في ذلك الوقت قد أصدرت كتابا شعريا بالفرنسية. بعدها عملت في صحيفة “لوجور” كاتبة مقالات فنية ثم استقرت في صحيفة “النهار” لتبقى هناك 55 سنة.
بدأت شاعرة ثم أصبحت رسامة لتمزج في ما بعد بينهما. بعد “أسود الزرقات” كتابها الشعري بالفرنسية عام 1965 أصدرت لور كتابها القصصي “إكليل شوك حول عنقي” عام 1966. صدر لها أيضا أربعة كتب بالفرنسية إضافة إلى كتاب مشترك مع ابنها مازن كرباج بعنوان “غدا لن يأتي” وهو عبارة عن قصة مصورة.
عام 1965 أقامت غريب أول معرض لها بعنوان “أسود وأبيض” وذلك في قاعة وان التي أسسها الشاعر يوسف الخال. بعد ذلك المعرض أقامت حوالي عشرة معارض، عدد منها كان مشتركا مع ابنها مازن.
عام 2017 أقامت لور معرضا بعنوان “نشوة العين”. في ذلك العنوان يكمن تلخيص شعري لطريقة تفكيرها في الفن. وهي طريقة تقدم المتعة البصرية على الأفكار التي تظل قائمة، لكن كخلفية.
المرأة التي مزجت الجرأة بالسخرية كانت توصف بالمرأة القوية. تقول “تنتابني رغبة في أن أحلم.
كان يا ما كان طفلة لا تتوقف عن الحلم” وهو ما يشكل وصفا دقيقا لكل ما فعلته. الشاعرة التي أحبت أن تكون رسامة ولم تشعر بالحرج وهي تسعى لتحليل وتفكيك ومداهمة أعمال الآخرين الفنية بروح ناقدة وثابة وحيوية شابة لم تهرم لغتها التي كانت شديدة التوتر كما لو نها مادة شعرية لا فائض فيها. لذلك كانت معظم مقالات لور غريب قصيرة، خاطفة كما لو أنها تستجيب للانفعال.
كانت المرأة المتسائلة دائما. الكتابة لا تجيب بشكل محدد. البحث عن جواب قد يفسد روح الكتابة المشاغبة. كانت لور قد ملأت المشهد الفني في لبنان شغبا. حين كف نزيه الخاطر في نهاية حياته عن الكتابة استطاعت لور أن تملأ فراغ غيابه.
الطفلة المشاغبة
ما فعلته لور غريب على مستوى ضبط العلاقة بين مزاج الرسامة وحيادية الناقدة كان استثنائيا بشكل لافت. فمن المعروف أن الرسام مهما كان محايدا لا يمكن سوى أن يخضع لمزاجه المتقلب. غير أن الأمر كان مختلفا كل الاختلاف. كانت قادرة على استبعاد الرسامة حين تكتب ولم تكن في المقابل لتشعر بضغط الناقدة حين ترسم. ذلك هو سر نجاحها رسامة وناقدة عرفت كيف تؤكد وجودها في الاتجاهين. وهو ما أهلها لكي تكون آخر ناقدات الفن في بلادها. وسيُلتفت إليها في المستقبل باعتبارها صاحبة مدرسة في النقد الفني.
بسبب طول عمرها عاشت لور مراحل الحداثة الفنية في لبنان كلها وكتبت عن جميع المعارض التي كانت تُقام في بيروت. ولو جُمعت كتاباتها لشكلت سجلا لتاريخ الحركة الفنية في بلد كان وما يزال يعج بالنشاط الفني. ومن وجهة نظري فإن أثر مقالاتها لا يزول بسبب غياب الظواهر الفنية التي كتبت عنها. ذلك لأن مقالاتها كانت مليئة بخبرة الفن وأسئلته والبحث عن حقيقته.
ستكون العودة إلى مقالات غريب ممتعة في أي وقت. لا لخفتها اللغوية وعمق مضامينها حسب بل وأيضا للدرس النقدي الذي انطوت على نزاهته وعفة مقاصده.
لذلك يمكن القول إن المرأة القوية التي لن يسعها أن تكتب عن معارض المستقبل ستكون حين العودة إلى مقالاتها قادرة على تصحيح المسار الفني.
كانت لور غريب ناقدة من طراز خاص قد لا يتكرر.
فاروق يوسف- العرب