التطبيع العربي تجاه دمشق على هدير الزلزال: بين السعودية وإيران ماذا سيفعل الأسد؟
يبدو مثيراً أن ينطلق قطار التطبيع العربي تجاه دمشق على هدير الزلزال. ولكن، هل آن الأوان فعلاً ليتصافح العرب مع الرئيس بشار الأسد؟ وأي صيغة سحرية سيلجأ إليها الأسد لطمأنة العرب العائدين، من دون أن يخسر إيران؟
لم يكن مفاجئاً قول وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، في منتدى ميونيخ للأمن، إنّ «إجماعاً بدأ يتشكّل في العالم العربي على أن لا جدوى من عزل سوريا، وأنّ «الوضع الراهن غير قابل للاستمرار». وفي غياب السبيل لتحقيق «الأهداف القصوى» من أجل حلّ سياسي، بدأ يتشكّل نهج آخر لمعالجة مسائل اللاجئين والمدنيين بعد الزلزال. وينبغي أن يمرّ ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق.
فمنذ أن تولّى الأمير محمد بن سلمان ولاية ولاية العهد عام 2015 ثم ولاية العهد في 2017، بدا واضحاً أنّه راغب في تبديل النهج الذي اعتمدته المملكة تجاه دمشق منذ العام 2011، إذ دعمت المعارضة بقوة، وقادت الحملة التي أدّت إلى تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية.
في أي حال، اليوم، لم يعد على أجندة أي من القوى العربية، ولا حتى الغربية، مشروع إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. وثمة أسباب عديدة لذلك، أبرزها دخول روسيا، بعد إيران، في القتال إلى جانب الأسد، ما أحبط قدرة الفصائل السورية المعارضة على حسم المعارك، واستشراس الخلافات بين هذه الفصائل توازياً مع اتساع الهوة بين القطبين الداعمين للمعارضة السورية أي السعودية وحلفائها من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، ونمو ظاهرة «داعش». وكذلك، إنشغال الخليجيين في الحرب غير المباشرة مع إيران في الخاصرة اليمنية. ولكن الأهم هو أنّ قوى عديدة في العالم بقيت تقيم جسوراً مع الأسد من تحت الطاولة.
الفكرة التي تظلّل النهج السعودي الجديد هي ترتيب البيت الخليجي أولاً، بتسوية العلاقات السعودية- القطرية، واعتبار أنّ المواجهة الحقيقية يجب أن تكون مع إيران، لا مع الأسد، وأنّ التطبيع ممكن مع القيادة السورية إذا تخلّت عن تحالفها مع طهران، وأوقفت العمل السياسي والعسكري والأمني المشترك في العالم العربي. بل إنّ بن سلمان يريد تطبيع العلاقات مع طهران أيضاً، ولكن بعد الحصول على ضمانات بأنّها تخلّت عن نهجها الحالي، من اليمن إلى العراق وسوريا حتى لبنان. والمملكة سلكت طريقاً واضحاً لبلوغ هذا الهدف، من خلال محادثات الحوار التي جرت في بغداد.
وفي الموازاة، تدرك المملكة وحلفاؤها العرب أنّ إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي يبقى السبيل الأفضل للحدّ من تنامي الدور التركي في سوريا والعالم العربي، بالتنسيق مع طهران. والتطبيع الذي حصل في الأشهر الأخيرة بين الأسد وأنقرة يشكّل حافزاً للعرب كي يسرعوا الخطى في اتجاه دمشق وفرملة أي توسُّع للدور التركي. ولذلك، جاءت النكبة الإنسانية التي أصابت سوريا، أي الزلزال المدمّر، لتبرّر انطلاق خطوات سياسية كانت قد نضجت وتنتظر اللحظة المناسبة للتنفيذ.
وأساساً، العديد من حلفاء المملكة، كالأردن ومصر والإمارات العربية المتحدة، لم يقطعوا العلاقات تماماً مع الأسد، وأما سلطنة عمان فحافظت على متانة علاقاتها معه، ولم تنقطع زيارات مسؤوليها لدمشق خلال الحرب. وفي العام 2018، أعاد الإماراتيون فتح السفارة.
وكان منتظراً أن تكون القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في الجزائر، الخريف الفائت، مناسبة لعودة دمشق إلى الجامعة. ولكن البلد المضيف فشل في تحقيق هذا الهدف، إذ تبين أنّ إنضاج الخطوة يحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد. فالأسد لم يقدّم الضمانات اللازمة في ما يتعلق بالدور الإيراني.
لقد أطلقت كارثة الزلزال دينامية ديبلوماسية تفتح الباب مجدداً للتطبيع بين العرب والأسد، ويضطلع الإماراتيون والمصريون بدور أساسي في هذا الملف. وأجرى الرئيس عبد الفتاح السيسي اتصالاً بالأسد، هو الأول له منذ أن تولّى مقاليد الحكم العام 2014. لكن الأبرز كان زيارة الأسد لسلطنة عمان التي لها مغزاها السياسي الدقيق في هذا الظرف. فعُمان تحتفظ لنفسها بتموضع متوازن بين دول الخليج العربي وإيران. وسيكون المؤشر هو مشاركة الرئيس بشار الأسد في القمة العربية التي من المقرر أن تنعقد في الرياض قبل نهاية آذار المقبل.
طبعاً، كان هناك تأثير كبير لواشنطن في هذا الملف، إذ ضغط الأميركيون على العرب لعزل نظام الأسد، وفرضوا عليه العقوبات. لكن التمايز، بل الفتور، في العلاقات الأميركية- السعودية منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، يفتح الباب لموقف سعودي أكثر استقلالية في سوريا. وأما الأوروبيون، ولاسيما الفرنسيون، فقد حافظوا على حدّ من العلاقة مع النظام السوري، وهم اليوم أكثر استعداداً للتطبيع.
هل سيتمكن الأسد من الذهاب بعيداً في هذا الملف، فيتمكن من فك ارتباطه العميق بطهران ليتيح مجالاً للتطبيع مع السعوديين والعرب عموماً. وما هي نظرة موسكو، صاحبة النفوذ الأول في دمشق، منذ أن دخلت عسكرياً إلى سوريا وأنقذت الأسد من السقوط، في العام 2015؟
وهل يستطيع الأسد، مستعيناً بعُمان وأصدقائه العرب الآخرين، أن يبتكر تسويةً بين إيران والسعودية، تقوم على تقليص النفوذ الإيراني في العالم العربي، ووقف التدخّل في الخاصرة الخليجية، فيُرضي الطرفين معاً ويفتح لدمشق باب التطبيع والأموال الخليجية التي يريدها؟
سؤال آخر: ماذا عن لبنان، إذا نجحت التسوية السورية- السعودية؟
إذا عاد التوافق السعودي- السوري، فلبنان يمكن أن يستعيد المظلّة التي كانت معروفة خلال عقود بـ«س- س». ولكن، اليوم، حصلت تحولات مهمة أبرزها تعملق الدور الإيراني. والمارد الإيراني تصعب إعادته إلى القمقم. كما أنّ الأسد نفسه لن يقبل بفعل أي شيء على حساب إيران.
ربما هناك أطراف تدغدغها أحلام اتفاق الطائف، العام 1989، الذي هو الركيزة الأساسية لقاعدة «س-س»، إذ قدّم السعوديون التسوية وتولّى السوريون أمر التنفيذ ميدانياً على مدى 15 عاماً، إلى أن وقعت الواقعة باغتيال الرئيس رفيق الحريري وما أعقب ذلك من تحوّلات.
في الانتظار، يستعجل الأسد ابتكار تسوية ترضي السعودية ولا تمسّ بإيران، حتى لا تَفوت الفرصة في قمة الرياض كما فاتت في قمة الجزائر. ولذلك يجدر التمسك بالمثل اللبناني «لا تقول فول ت يصير بالمكيول».
طوني عيسى- الجمهورية