4 أشهر من الخديعة: لماذا انقلب السيّد على خطابه.. عبّاس إبراهيم سيخبرنا ذات يوم؟؟
الزمان 27 – 29 تشرين الأول 2022، السيّد حسن نصرالله: “المهمّة أُنجزت. نحن نعتبر ما حصل (اتفاق الترسيم بين “جمهورية لبنان ودولة إسرائيل”) هو انتصار كبير وكبير جداً (…) هي بداية كسر الحصار الأميركي والغربي على لبنان (…) هذا يضع لبنان على طريق الاقتصاد (…) هوكشتاين تكلّم هكذا وبلينكن تكلّم هكذا وبايدن تكلّم هكذا أيضاً (…) هذا تحوُّل كبير ولو بالموقف العلني (…) إن شاء الله إلى مزيد من الانتصارات (…) إضافةً إلى العزّة والكرامة والسيادة، الثروة التي تُمكّن لبنان من الخروج من أزماته، وآخر شيء تبيّن أنّه فعلاً: الصواريخ تُطعم خبزاً (…) وإنّ غداً لناظره قريب”.
الزمان 16 شباط 2023، السيّد حسن نصرالله أيضاً: “هناك نوايا مسبقة للتسويف، أنا أحذّر من التسويف (…) إذا دفعتم لبنان إلى الفوضى ستخسرون في لبنان وعليكم أن تنتظروا الفوضى في كلّ المنطقة. عندما تمتدّ مؤامراتكم إلى اليد التي تؤلمنا وهي ناسنا، سنمدّ أيدينا وسلاحنا إلى اليد التي تؤلمكم وهي ربيبتكم إسرائيل (…) من يُريد أن يدفع لبنان إلى الفوضى أو الانهيار، عليه أن يتوقّع منّا ما لا يخطر له في بالٍ أو وهم، وإنّ غداً لناظره قريب”.
أكثر من الكلام ومضمون الخطابين، كان الفارق واضحاً على وجه الأمين العام لحزب الله. بين الابتسامة الكبيرة في تشرين الماضي، والغضب المفهوم في خطاب شباط. أقلّ من أربعة أشهر هي. ما الذي تغيّر؟
من ينسى أجواء الغبطة والحبور الذي لامس “اليوفوريا” في تلك الأيام الأخيرة من تشرين الأول الماضي؟ احتفالات تفوح منها رائحة الغاز المتفجّر غداً صباحاً، والعائدات الداخلة على صناديقنا منذ العشيّة. عناقات مطبقة لأقفاص الصدور مع الأخ المجاهد هوكشتاين. وتطويب لصفقة الألفيّة باسمه، بعدما غطّت على الاتفاق الإبراهيمي، قال، وتوزيع أوسمة “دوكما” وبالجملة. ووعود ذاتية ووطنية وحتى للإقليم وللعالم: العقوبات ستُرفع. عن الأشخاص وعن البلد. والغد زهريّ حتماً، لا كما رأيتم زهراً قطّ.
لا بل لمن ينبش الوقائع وإسهال كلام المسوّقين يومها، يجد بعض السذاجة أو أكثر. قيل للّبنانيين إنّه حتى قضية غاز مصر وكهرباء الأردن، حُلّت وحُسمت. اكتشف الرفيق آموس فجأة أنّ من يعرقلها موظّف في البنك الدولي من بيت فان تروتسينبورغ. وأنّ الأخ هوكشتاين الملتحق بجهادنا من احتياط جيش “دولة إسرائيل”، سيفرك أذن المعرقِل فوراً. وستهدر كهرباء عمّان وغاز القاهرة في حياتنا قبل أن نسأل.
كان يومها أحد المسؤولين الأمنيين الضليع بعلوم المفاوضات ينصح باشتراط حصول ذلك مثلاً قبل التوقيع على الأقلّ. من باب دفعة على حساب الـ1,430 كلم2 وملياراتها التي طارت. أو من نوع إجراءات بناء الثقة بيننا وبين شريكنا الغازيّ المستجدّ… فصار من فريق رئيس الجمهورية ومتّهماً بمحاولة إجهاض أعظم انتصار فوري للبنان منذ اكتشافه الأبجديّة. كيف لا وهو انتصار موثوق ومضمون بسلّة ورزمة واحدة متراصّة: من إيجابيّات موعودة وآتية في نووي إيران، إلى “سواب” حكومي ونفوذي في العراق، عبر مبادلة كاظمي الأميركي بالسوداني الإيراني. مع تخيّلات أخرى لكلّ من حلقات سلسلة هذا المحور المنتصر دوماً، في تفوّق اقتصاده وازدهار أسواقه ويُنوع إنسانه. بما جعل بلدانه قبلةً لهجرة كلّ بؤساء الغرب وموئلاً لكلّ لاجئ أو جائع في الأرض.
حركة الانقلاب
مضت الأيام. دخلنا في شغورنا الرئاسي. وفي أقلّ من أربعة أشهر صرنا على حافة الانقلاب على تلك الأجواء. والأهمّ، شبه التهويل بالانقلاب على مفاعيل الترسيم نفسه. أو حتى اتّفاقه. لماذا؟
كأنّ هناك من خدعنا. بشيء من بسمة الدجل وكثير من خبثه. لنستفيق بعد أسابيع قليلة على هذا المشهد الحقيقي:
في إيران لم تتوقّف خضّة الداخل والشارع. ربّما لأنّها غير محرَّكة من السفارات. قبل أن تتراكم مؤشّرات التوتّر: قطيعة أوروبية، خصوصاً مع مثلّث فرنسا – ألمانيا – بريطانيا. أزمة رهائن، تذكّر بلعبة بيروت في الثمانينيات. قصف أصفهان الخطير. وصولاً إلى الكلام الأميركي الأخير عن أنّ خليفة الظواهري وزعيم “القاعدة” الجديد من سكان طهران. بما يعنيه ذلك في القاموس الأميركي.
في اليمن، لا خطوة واحدة صوب أيّ وضع آخر. في ظلّ انطباع إيراني متمادٍ، بأنّ الهدنة شكّلت مناورة أميركية سعودية ناجحة لهما. أو على الأقلّ، أقلّ ثمناً وكلفةً من أيّ احتمال آخر.
في العراق، حيث قيل إنّ طهران قبضت مقابل دفعة بيروت، فجأة صار رئيس الحكومة الجديد في واشنطن. بدا وكأنّه كاظمي جديد. لا بل أكثر تحرّراً وفاعلية. نظراً إلى عجز “التنسيقي” عن عرقلته. وهو من اختاره. مع عودة إلى الاتفاقات الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة. ومع تماهٍ أكثر مع المطالب الأميركية. الكاظمي مثلاً كان أعلن التزامه مقرّرات “أوبك بلاس”، التي أزعجت واشنطن. السوداني أعلن رفضها. الكاظمي أوحى أنه أقدر على أن يأخذ من السعودية والخليج ومن الغرب لصالح العراق. السوداني يبدو مؤهّلاً لأن يأخذ من إيران وحدها ويقدّم للمعسكر الآخر.
في سوريا، دخول تركي وإماراتي، وربّما سعودي، كلّه على حساب الحصّة الإيرانية في صحن أميّة المشلّعة. صحيح أنّ الأسد لا يغدر ولا يخذل فضلاً إيرانياً ربّما. لكنّ اللعبة ستذهب حتماً نحو ميزان قوى جديد في ملعب أنقاض ما كان دولة. كلّما دخل لاعب عربي، خرج لاعب فارسي. وكلّما ارتفع منسوب القادرين على وعود الإعمار، انخفض منسوب الداعمين لصمود القتال. لعبة أوانٍ مستطرَقة دمشقية، على حساب الإرث السليمانيّ العظيم… فيما السوريون على شفا الموت جوعاً من الخبز، أو تخمة من كرامات الانتصارات.
وصولاً إلى لبنان، حيث درّة تاج الإنجازات، يعلن بوقاحة أحد الخبراء الدوليين، أنّ أكثر من 200 ألف لبناني هجّوا وهجروا أرض الإنجازات سنة 2022. ويتوقّع رقماً مماثلاً سنة 2023.
ماذا حصل مع آموس؟
ما الذي يفسّر انقلاب إدارة الرفيق آموس علينا هكذا؟ كيف تركنا الأخ هوكشتاين في عزّ حاجتنا إليه وإلى وعوده وعناقاته وترجمة انتصارنا المشترك معه؟
قيل إنّ السبب دخول إيران الفاعل في حرب الدرون الأوكرانية إلى جانب روسيا. وقيل العكس. وهو ما جعل حرب الغرب شاملة عنيفة ضدّ التجرّؤ الإيراني على اللعب في قلب أوروبا.
وقيل العكس تماماً. إنّ تخبّط موسكو في وحول شرق كييف، أراح واشنطن. حتى صار بايدن قادراً على تحقيق كلّ خطابات ترامب، بأفعال دبلوماسية هادئة، لا جنون ترامبيّاً فيها. لا بل صار البيت الأبيض مرتاحاً حتى التغوّل في معارك سياسته الخارجية الثلاث الأساسية:
من روسيا حيث حُشر بوتين في زاوية خطاب شبه تيوقراطي، عن حرب على الأرثوذكسية وجدال في ثقافة المثليّة وجنس الله. فيما هو يخطب في الذكرى السنوية الأولى لعملية خاصة أرادها ذات صباح مثل اليوم بالذات من شباط الماضي، قضمة خاطفة مثل جرعة فودكا موسكوبية.
إلى الصين حيث جلس ناظر خارجية واشنطن مع نظيره الآتي من خلف السور العظيم، ليهدّده وجهاً لوجه في ميونيخ: إذا كرّرتم لعبة المنطاد ستدفعون الثمن. فيما الصيني يبتسم، ويعد بالتحرّك لمبادرة سلام في أوكرانيا.
انتهاءً بإيران وكلّ “مجالها الحيوي الثوري”، حيث صار بوب مالي، السوري المصري الأصل، والمتّهم بميول خمينيّة، صقراً أميركياً أقرب إلى محافظ جديد مستجدّ، يهدّد ثورة المرشد كلّ صباح، بشعر فتاة يلاعب هواء غير مخنوق. ويكاد يُسقط أربعين عاماً من كلّ خطابات الكاسيت، بأغنية “براي*”.
أسرار عبّاس إبراهيم
في الخلاصة مفهوم أن تقوم أميركا بما يخدم مصالحها. ومشروع لكلّ متضرّر منها أن يواجهها. لكنّ غير المشروع ولا المفهوم، أن يخدع مسؤولو لبنان أنفسهم، قبل أن يكتشفوا سذاجتهم وانخداعهم، أو خداعهم لناسهم، في أقلّ من أربعة أشهر.
مأساوي أن ينتهي انتصار عظيم كالذي أخبرونا عنه ذات يوم من تشرين، بفطور تحريضي على آخر مؤسسة وطنية، وبضع بطاقات للمونديال، وروائح غاز سيظلّ مأمولاً في صندوق وطن، لا في جيوب بضعة دجّالين.
يحكى أنّ القصّة بكاملها، بحقائقها وأضاليلها، في قلب رجل اسمه عبّاس إبراهيم. ويحكى أنّه سيرويها كاملة، ذات أوان.
*أغنية “براي” أو لأجل الفارسية التي تحوّلت نشيداً لكل المتظاهرين في إيران
جان عزيز- اساس